????? كمال القطوي
في مرض الفصام يرى المريض صديقه عدواً ، وكما يصاب الأفراد بهذا الداء ، فقد تصاب به المجتمعات أحياناً.
ما يحدث عند بعض إخواننا الجنوبيين من استعداء لكل ما هو شمالي ، ولو كان قاطناً في الجنوب منذ ثلث قرن ، مظهر من مظاهر الفصام السياسي.
وهم ضحية لثقافة تغييب شاملة امتدت منذ ثورة الفلاحين التي قادها "سالمين" وجعل ثلث الشعب الجنوبي يهاجر من بلاده هرباً من التأميم، ومن فرض أيدلوجيا متعصبة تعيد قولبة الإنسان وفق توجهات الحزب، ثم جاءت الوحدة فأكمل "عفاش" مسيرة التغييب وقدم أسوأ أنموذج في التسلط والهبر.
هنالك أصيب الجنوبي بخيبة أمل ، وتلبسته حالة قنوط خلقت لديه نظرة سوداوية تجاه الحياة، إلا أن مردَة الحراك وظفوا هذه الطاقة المكبوتة تجاه كل ما هو شمالي، وتناسوا مسيرة نصف قرن من القولبة الأيدلوجية التي أفقدت الإنسان الجنوبي خصائص الإنسان الواعي وجعلته خائفاً متردداً ومتوجساً من كل شيء، ففقد ثقته بنفسه وبالآخرين.
نحن اليوم أمام جيلين: جيل صنعته مطارق الحزب الجهنمية، وجيل عبثت فيه تربية عفاش الإفسادية، والنتيجة ضياع هوية اليمن وفقدان بوصلة التاريخ .
ماذا يريد الجنوبي ؟ هو نفسه لا يدري ، هو نفسه لا يرى الشر كل الشر إلا في الشمال ، غير مدرك أن أزمة اليمن ليست في الشمال ولا في الجنوب، وإنما في طغمة فاسدة تسلّطت على الجميع وأعادت توزيع الظلم بتساو بين الأطراف.
لقد اختزل شيعة العراق مشكلة العراق في السنة، فلما استلموا الحكم قدموا أسوأ أنموذجٍ في الحكم ، واليوم يبكون على أيام "صدام" التي كانت وفق شعارات الأمس جحيماً لا يطاق!
وفي جنوب السودان قامت النخبة الجنوبية المرتبطة بالمخابرات الأمريكية بإقناع شعب الجنوب أن جنتهم الموعودة كامنة في الانفصال؛ فلما حازوا ورقة الانفصال ، ذبحوا في 7 أيام 10 آلاف إنسان ، ليعيدوا للعالم مآسي التوتسي والهوتو.
مشكلة الجنوب ليست في الوحدة، وحلها ليس في الانفصال، بل ربما يرتكب الجنوبيون الخطأ الأكبر إذا ما قرورا الانفصال ، فيتحولوا إلى كنتونات صغيرة يحكمها أمراء الحرب.
يساورني القلق كلما لاحت أعلام الانفصال، استحضر مجازر 86 م، وثورة الفلاحين في السبعينات ، أتذكر مئات القوارب التي هرّبت الجنوبيين إلى سواحل أفريقيا وجنوب شرق آسيا، أستعيد التغريبة اليمانية التي رمت بثلث الشعب بعيداً عن سطوة الحزب.
من حق الجنوبي أن يختار أي صيغة للتعاقد السياسي في المرحلة المقبلة ، إلا أن من واجبه أن يعي درس التاريخ، فلا ينجرف إلى الهاوية، فإعلان التشطير سيصبح فيروساً يضرب الجزر الجنوبية، فلن ترضى حضرموت بأقل من دولة مستقلة، وستكمل المهرة هجرتها نحو عمان، وستعود قبائل الغرب الجنوبي إلى حرب الزمرة والطغمة، في ظل توزع الرايات، وتشتت الداعمين، ووقوع الجنوب على مرمى التنازعات الإقليمية والدولية، ووفرة المستثمرين.
يؤلمني غياب النخب الحكيمة في الجنوب، وتخوفها من مواجهة الجماهير بالحقيقة المُرّة، الماثلة للجميع التي تشير دالتها إلى ( أن الانفصال هو الخيار الأسوأ، ليس حباً في الشمال ولكن خوفاً على الجنوب).
يحتاج الجنوب لمجموعة من السياسيين الاستشهاديين الذين يرفعون الصوت عالياً ويقولون للجماهير والغوغاء كفى؛ ويهتفون في المصابين بمرض الانفصام السياسي = ( إن مشكلتكم ليست في الشمال، وإنما في نظام يعيد الاعتبار للإنسان كل الإنسان)، والحل كامن في نضال شامل لبناء دولة حديثة، وفق صيغة أكثر عدالة وبسطاً للحقوق ومراعاة للخصوصيات.
حالة الرهبة من الجماهير والخوف من مواجهتها سيدفع ثمنها السياسيون الصامتون ، وتدفع ضريبتها الجماهير العمياء، التي انطلقت بغريزة الألم لا بعقل المبصر.
حضر في الجنوب كل شيء إلا صوت الحكمة والعقل، ظل متوارياً عن الأنظار متودداً إلى الجماهير بمطلبها العابث.
إلى متى يظل الصوت الوطني في الجنوب غائباً لصالح مرتزقة يتاجرون بآلام الجنوب في أرصفة بيروت وأزقة صنعاء وسواحل الخليج؟!
إلى متى يتوارب الوطني الجنوبي ويفسح الميدان لزعامات الفشل، التي فشلت في مشروعها الوحدوي والانفصالي في آن واحد، ولم تجني إلا المصائب لشعبها ، والأرصدة لحساباتها؟!
إن الشجاعة في مواجهة الجماهير العمياء لا تقل عن الشجاعة في مواجهة الأنظمة القهرية والمتسلطة، وهذا ما ينقص النخب الجنوبية الغائبة تحت رداء المظلومية التي قد تتحول إلى آلة لإعادة إنتاج الظلم، فيتحول مظلوم الأمس إلى جلاد اليوم ، يضر بنفسه والآخرين.