هناك حملة مسعورة تحاول النيل من هامة وطنية كبيرة ؛ عرفت بمواقفها الشجاعة ، وانحيازها إلى صف الوطن في الرخاء والشدة ، وقف يوم فرّ الجميع ، وأقدم حين تراجع الجميع ، لم تهتز مواقفه ولم ترتعش كما ارتعشت مواقف بعض القوى السياسية حين ظنت أن سراب الحوثيين ماء .
قاد سفينة عدن حين تلاشت الدولة ، واختفت مؤسساتها ، وخلع الجندي بزته ، ورمى الضابط رتبته ، وهوى الوزير من علياء كرسي وزارته ، وترجل المدير من على ظهر كرسي إدارته ، وتحولت مرافق الدولة مرتعا للسلب والنهب ، وحولها اللصوص إلى خرابة تنعق على أركانها البوم .
وقف هذا الفارس حين استبدّ بالناس الخوف وبلغت القلوب الحناجر ، وثبت ثبوت الجبال الرواسي حين كانت كثير من القوى تنتظر تسوية سياسية مراهنة على أواصر ودّ قديمة جمعتها بالحوثيين ، بقي في عدن حين تركها كثير من ساكنيها ولم يبق فيها إلا من سكنتهم عدن .
تسنم قيادة مدينة لم يبق فيها إلا الموت والحصار ورائحة البارود التي ملأت زوايا المدينة وأركانها ، إنه بطل الحرب والسلام نايف البكري ، فحين كان نايف هنا أين كنتم ؟
يقطر القلب دما ، وتستبد بالنفس الحسرة ، حين يعتلي الرعاع الذين كانوا في حجور نسائهم المناصب ، ويجنون المكاسب بمواقف القادة الذين صمدوا ، وبدماءالأبطال الذين استماتوا في الدفاع عن عدن وتطايرت إشلاؤهم على أسوارها المنيعة .
يصاب الشرفاء بالذهول ، وتموت الأبطال كمدا وحسرة حين ترى سرّاق النضال قد أرتقوا المرتقيات الصعبة ، والمناصب العالية ، والمكانة الرفيعة ، تحيطهم الجماهير بالتقديس والتبجل ، وتتغنى ببطولاتهم ومآثرهم التي لاندري أين كانت ؟ في حين تنكّرت الجماهير للأبطال الحقيقين ، وجحدت تضحياتهم ، بل لم يسلم هؤلاء الأبطال من تخوينهم ، والتشكيك في مواقفهم ، نتيجة التحريض الإعلامي الذي تنفث سمومه الإقلام الرخيصة ، وتسوّقه منابر الزيف والتضليل ، وتصدره العقليات المتشنجة ، التي ملأت الدنيا ضجيجا كعادتها في كل مرحلة ، لتعلم إن الطبول الجوفاء لايصدر عنها سوى الصدى ، والعقلية المتشنجة لاتقود إلا إلى مهاوي الردى .
لابدّ من مراجعة تاريخ هذه العقلية ، ولابدّ للجماهير من مراجعة تاريخها لكي تصحوا من تأثير الشحن ، والتوقف عن اللهث وراء السراب ، وإهدار الجهد والوقت في الجري خلف الزعامات الكرتونية المصنوعة ، ومن أراد معرفة هذه العقلية ، والوقوف على حقيقتها فلينظر إلى ماضيها البائس ، ونتاجها النتن ، لتعلم إن ماتقوم به هذه الزعامات الكرتونية من حركات بهلوانية لتسحر بها أعين الجماهير إنما هي تجربة مكررة مارسها السابقون وانساق الناس خلفهم في لحظة لاوعي كهذه التي نعيشها اليوم تماما ، وماتراه اليوم من تخوين ، وأعمال إجرامية ، وإرهاب فكري ، وثقافة استبدادية ، وتصفية للرموز الدينية ، والاجتماعية ، والسياسية ، أوالزج بها في غياهب السجون ، أوتشريدها في المنافي هو النتاج الطبيعي لهذه لعقلية .
في سبيعنيات القرن الماضي سحل الرفاق كل القيادات والرموز الوطنية ، وظنوا أنهم انتصروا حين قضوا على خصومهم السياسيين ، فتأكل الرفاق فيما بينهم رغم أن النخبة الحاكمة إشتراكية ، والحزب الحاكم أشتراكيا ، ونهج الدولة إشتراكيا ! فهل استطاع الرفاق الأستمرار في الحكم لوحدهم ؟ وهل استطاعوا الاستئثار بالسلطة إلى الأبد ؟ وماهي المحصلة النهائية لعهدهم الميمون ؟ دق الرفاق رقاب بعضهم ، واحرقوا عاصمة دولتهم ، كما احرق نيرون عاصمة ملكة ، وسلم الجيل الأخير منهم الدولة دون حرب أو ثمن ، ورموا بأنفسهم تحت أقدام الرجعية التي أشبعوها لعنا لأكثر من عقدين من الزمن .
وإذا أردت التأكد من كلامي هذا فسأل نفسك أن كنت من عاش تلك الفترة ، وإن كنت لم تدركها فسأل من عاشها أين الأحزاب الوطنية التي شاركت في صنع الثورة ؟ أين جبهة التحرير وقياداتها ؟ أين الرابطة وقياداتها ؟ أين قيادات الجبهة القومية نفسها التي احتكرت الحكم بعد القضاء على بقية المكونات الثورية ؟ أين أمضى قحطان الشعبي بقية عمره بعد أن تنازل عن الحكم ؟ وأين مات ؟ وهل شفع له دوره النضالي ، أو تنازله عن السلطة ، أو وضعه الإنساني ، أو المدة التي أمضاها في السجن ، أو تعاقب ثلاثة رؤوساء بعده على الحكم ؟
ليموت خلفه مقتولا بأيدي رفاقه حين أرادوا أن يرثوا الحكم من بعده ، فهل استتبّ الحكم للقتله بعده ؟ لماذا لم يدم حكمهم بالرغم من تجريفهم للحياة السياسة ، وتفضيل الوطن على مقاسهم فقط ؟وتحويل الشعب إلى جمهور دوره الوحيد هو التصفيق للقاتل ، وكيل الشتائم للمقتول ، وتخوين من يعارض هذه الحماقات .
لم يدر في خلد أحد من أبناء هذا الجيل أن أرهاب السبعينات الفكري والسياسي سيعود ، وإن عقلية السبعينات الاقصائية ستسود مرة آخر .
قتل الرفاق كل رموز المجتمع حينها ، ولم ينج من مقصلة السبعينات زعيما سياسيا أو قبليا أو مصلحا أو شخصية اجتماعية ، وكلما سحل الرفاق زعيما سياسيا رقص الرعاع على جثته مرددين يسقط العملاء ، يسقط الخونة ، وكلما قتلوا عالما رقصوا على أشلائه مرددين يسقط الكهنوت والرجعية ، وكلما قتلوا مصلحا أو شخصية اجتماعية هتفت الرعاع بصوت واحد يسقط الخائن المرتزق العميل ، قتلوا حتى رجال الفكر والرأي وصفوة المجتمع ووطئ الرعاع جثثهم بأحذيتهم ، لأن هؤلاء في نظر الغوغاء ثورة مضادة .
جرّف الرفاق المجتمع من كل مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية ، وفصّلوا الوطن على مقاسهم ، ووزعوا على الشعب تهم خائن وعميل ومرتزق واقطاعي ورجعي وبرجوازي وثورة مضادة ومع ذلك كله لم يتسع الوطن لهم ، وفشلوا أن يعيشوا فيه لوحدهم ، فرّحل بعضهم بعضا إلى القبور بنفس الطريقة التي تخلصوا بها من خصومهم ، لينتهي بهم الأمر تحت أقدام القوي الرجعية .
ليمض أمواتهم إلى القبور مجرمين ، ويعيش أحياؤهم نادمين على ما ارتكبوه من موبقات وجرائم في حق الشعب والوطن ، فهل من مدكر ؟
سعيد النخعي
عدن 17/فبراير / 2018م