علي البكالي الهميسع
من وحي الشخصية اليمنية
علي البكالي
مقدمة من كتاب الذات الوطنية لم يطبع بعد 15/3/2014م
-----------------------------------------------
إن مهمة تحليل الشخصية اليمنية أمر يبدو في غاية التعقيد، لما تنطوي عليه هذه الشخصية من ثنائية في السلوك أشبه بتناقضية يصعب التوفيق بينها أحياناً، وأحياناً أخرى تذبل حد التماهي، ففي الوقت الذي يبرز مشهد العنف والقوة يظهر إلى جواره مشهد السلم الاجتماعي والعفو، وإذا كانت العصبية تظهر كإحدى مقررات سلوك الموروث الاجتماعي، فإن نزعة الطموح والمجد تترجمها العاطفة الجياشة المتعالية باتجاه القيمة المثالية تاريخية كانت أو دينية أو قومية.
وهذه الثنائية في الشخصية اليمنية لا تقتصر على خاصية دون أخرى بل إننا في الحقيقة قد نجد زوجين من الخصائص المتضادة على هيئة سلوك اجتماعي لدى فئتين اجتماعيتين أو حتى لدى الفئة ذاتها، فنحن نرى -مثلاً- لدى البعض اللامبالاة في المال العام يقابلها تشدد في التعبد والمثاليات، كما قد نجد من يقبل بالفكرة الوافدة الخارجانية، وفي ذات الوقت يؤمن بالقيمة الوطنية، وهكذا يبدو السلوك الاجتماعي مضطرب إلى حدٍ كبير، وهو من وجهة نظرنا يعبر عن إزمان بالغ في غياب الفكرة المعرفية، وإهمال كبير للذات الحضارية الوطنية، حيث تبدو مفردات السلوك الاجتماعي الأصيل كما لو كانت أطلال إندرست عبر متغيرات الزمن، ولكنها لا تزال مقروءة في الذهنية الاجتماعية بطريقة لا شعورية.
إن المجتمع اليمني في الحقيقة مجتمع أصيل قلما نجد له مثيلاً بين المجتمعات، فلقد مرت به ظروف من الاضطراب والفوضى انعدم فيها وجود الدولة والنظام بشكل عام، ولم يكن ذلك منحصراً في التاريخ الوسيط وحسب؛ ولكنه أيضاً تكرر في تاريخنا المعاصر لمرات كثيرة، وربما حتى كتابة هذه الأحرف لا توجد الدولة بالمعنى الذي يطلق عليها، ورغم ذلك نجد الوضع مستقرا إلى حدٍ ما، وحياة الناس تمشي بشكل طبيعي كما لو لم يكن شيء.
لقد مرّ المجتمع اليمني في لحظات الثورة الشبابية 2011م بأحلك الظروف وأبئسها على الإطلاق، أغلقت أمامه كل المنافذ، وانطفأت كل المصالح، الكهرباء والخدمات والطرق والنفط ...الخ، وكان من المتوقع أن يمزق المجتمع شذر مذر، خاصة في ظل احتقانات تعصف بالمجتمع من كل ناحية، ففي الجنوب دعوات الانفصال ونتوءات التطرف، وفي شمال الشمال دعوات التمذهب والعنف، وفي الوسط مطالب الانعتاق عن سلطة المركز، وفي الشرق عصابات قطع الكهرباء والنفط، وكان من المفترض لو كان غير اليمن أن يتفرق المجتمع أوصالاً، غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث، ما يدل على عظمة هذا الشعب وعظمة تاريخيه.
إنني في الحقيقة أستطيع أن اجزم لو أن بعض الشعوب العربية- أعني شعوب الربيع العربي- كانت تمتلك من السلاح ما يمتلكه الشعب اليمني لباشرت الثورة من لحظتها الأولى عبر البندقية والمدفع، وقد رأينا كيف انزلقت مجتمعات إلى العنف كلياً أو جزئياً وهي ربما لم تكن تمتلك قطعة سلاح، فكيف بمجتمع يتكدس السلاح لديه في كل بيت؛ ولقد تعجبت في الحقيقة يوم أن عرضت الداخلية المصرية بعض الخراطيش وهي لا تتعدى عشرة إلى عشرين خرطوش، وبعض زجاج الملتوف بعد تصفية اعتصام رابعة العدوية؛ قلت في نفسي هذه جميعها في اليمن توجد في بيت واحد، ولقد استحضرت عظمة هذا الشعب الذي يمتلك كل هذه الأسلحة ومع ذلك يرمي بها ويخرج إلى الشوارع بصدور عارية، يالله ما أعظمه من شعب وما أقدره على ضبط نفسه في لحظات الغضب التي تنزلق فيها الشعوب إلى المحرقة، إن السلمية التي صدرتها الثورة الشبابية صارت درساً تتعلم منه المجتمعات فنون النضال السلمي الذي لم نرها قبل عدا في فلسفة غاندي، مع الفارق بين الشعب الهندي الذي لا يمتلك السلاح، والشعب اليمني الذي يتكدس لديه السلاح تكديساً.
إننا لو تتبعنا – مثلاً- خاصية العاطفة التي يتمتع بها الإنسان اليمني لوجدناها في الحقيقة عامل قوة لا عامل ضعف، إذ أن جميع الحضارات تحتاج في لحظة انطلاقها إلى عاطفة جياشة تدفع بها للانخراط في الدورة التاريخية، وانطلاق الإسلام كحضارة عالمية من المدينة المنورة (يثرب) بعد المؤاخاة الواسعة والشاملة بين الوافدين إليها والسكان الأصليين قد يسر له سرعة الانتشار والتمكين في الجزيرة كلها، بعكس مكة التي ظلت تجادل جدلاً عقيماً تستند فيه إلى الشبهة والخرافة.
والمجتمع الذي يتمتع بهذه الخاصية مجتمع يمتلك البذرة الأساسية ويستطيع عولمة فكرته المتحضرة إن وجد له مشروع وفكرة يسهل عليه تحويل تلك العاطفة إلى علاقة إنسانية واستجابة اجتماعية لكل المتغيرات حوله وقد ناقشت العديد من الأشخاص من البلدان العربية في بعض القضايا الفكرية فوجدت من الصعب تعديل قناعاتهم التي حملوها من بلدانهم بينما نجد أي يمني مهما كانت مرتبته العلمية ومستواه الفكري يحمل القابلية للتبادل المعلوماتي أو التخلي عن قناعاته بشكل جزئي أو كلي متى اقتنع برأي غيره بغض النظر عن بلده وأصله وديانته وقد تصبح هذه الخاصية مصدر ضعف ومظهر عيب إذا ما غاب المشروع الاجتماعي والفكرة الناهضة أن تتحول إلى استجابة عكسية تستثمرها مراكز القوى والنفوذ أوأصحاب الدروشات والتصوف ودعاة الفكر المتطرف والصراع الفكري المختلق.
إن الخصائص التي يتمتع بها المجتمع اليمني وإن بدت متضاربة شيئاً ما فإنما تعبر عن الفراغ النفسي الذي يعيشه المجتمع بسبب طول أمد التخلف الثقافي، فالمجتمع اليمني يكاد يكون خارج نطاق الفاعلية الحضارية منذ حوالي ألفي عام، وحتى حينما استجاب لرسالة الإسلام الخاتمة ورسولها الكريم لم يحضر في قلب التاريخ الحضاري للأمة إلا حضور الغارمين، فهو يقدم التضحيات دون أن يكون له شهود في ميدان السياسة والملك، ومن هنا لم تنتقل إليه سلطة الدولة كما انتقلت إلى بلاد الشام والرافدين ومصر؛ بل انتقل هو إليها مجاهداً ومناضلاً في سبيل القيمة العليا(الإسلام) متناسياً تماماً نصيبه من الدنيا، وهي خاصية لصيقة بالشخصية اليمنية التي لاتضاهيها شخصية في ميدان النضال والتضحية، فهي الشخصية الأكثر إيماناً بالوجود الحضاري القومي للأمة العربية، وهي لذلك تقدم تضحياتها السخية دون أن تشترط لنفسها أي مكانة دنيوية أو سلطة سياسية، على العكس تماماً من بقية المجتمعات التي لا تستجيب للفكرة الدينية أو القومية ما لم تجد نفسها حاضرة بقوة في قلب الحدث.
إننا لو رجعنا إلى تاريخ الإنسان اليمني فسنجده يستجيب لرسالة سليمان- عليه السلام- برسالة يرمي بها في محضره عصفور لا بشر، ولو أننا قايسناها بمقياس الأبستمولوجية المعاصرة فإنها لا تعني سوى الصدفة التي لا تستدعي تحرك المجتمع وانتفاضته كلياً لأجل رسالة يلقيها طائر غريب، ولكنها عند الإنسان اليمني القديم تعني شيئاً كثيراً، إنه الإنسان الذي تتناغم في واقعه فلسفتي الروح والمادة معاً، فهو يستجيب لنداء الروح كما يستجيب لنداء الملك، ويؤمن بعالم الغيب كما يؤمن بعالم الشهادة، ويتفاعل مع الكون كما يتفاعل مع الإنسان، ويقدر الآخر ويتعامل معه من منطلق الإنسانية العالمية تماماً كما يقدر ذاته الوطنية، فهو لا يقف عند حدود نفسه فينحبس على ثقافته وذاته، ولكنه يستجيب لنداء العقل والروح ما دام هو عين الحقيقة، ثم إنه لا يماري فيما يعتقد أنه الصواب ولا يتمالأ على الرفض والإنكار، ولكنه يندفع بمصداقية منقطعة النظير فيستجيب عن بكرة أبيه لنداء الحقيقة، ومن هذا القبيل كانت استجابته للرسالات السماوية المتعاقبة من بعد هود- عليه السلام- رسالة إبراهيم وإسماعيل وسليمان ومحمد صلى الله عليهم وسلم، فلا نكاد نجد خبراً ولا أثراً ينكر استجابة اليمنيين لدعوات الأنبياء والمرسلين، وهويستجيب طواعية دون قتال ودون حرب، فما من رسالة سماوية وصلت اليمن إلا استجاب لها كل اليمنيين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظمة هذا الإنسان التلهف للمجد الباحث عن الحقيقة، المتعطش للفكرة الحضارية، وعلى العكس منه بقية المجتمعات العربية التي لا تستجيب للفكرة التاريخية إلا في حدود الشرط المادي النفعي، فقريش – مثلاً- ترفض الاستجابة لرسالة الإسلام، وتحاول قتل الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم لمجرد أن دعوته ورسالته تعارضت ومصالحها المادية، في حين يقدم اليمنيون (في يثرب) أرواحهم وأرضهم لأجل الفكرة الجديدة، ويقبلون أن يذهب الناس يوم حنين بالأثقال المحملة بالغنائم، ويعودون هم برسول الله، وحينما اقتتلت قريش على المجد والسلطان وأخذت تتنازعه بين الأسرة والقبيلة فضل اليمنيون أن يستمروا في الفتوحات ونشر الإسلام تاركين لقريش معمعة الملك والسلطة، وهكذا هي الشخصية اليمنية تعشق المجد، وتناطح الطموح، ولا تنتظر من وراء تضحياتها أن تجني الفوائد المادية، بل تكتفي أن تحقق النصر والعلو للفكرة التاريخية، وفي كل مرحلة تصاب الفكرة التاريخية بانتكاسة لن تجد لها نصيراً خير من اليمنيين.
إنه يمكن القول أن الشخصية اليمنية بما تملك من خصائص قوية وإن بدت مضطربة أحياناً هي الشخصية الفريدة التي تتناغم سريعاً مع الفكرة التاريخية بمجرد أن تبعث في نطاقها بثقافة متجددة، فمن خصائص الإنسان اليمني أنه لا يستجيب للشخص بقدر استجابته للفكرة، فالإنسان اليمني هو الوحيد الذي لم يبرز في حياته البطولات والأبطال، ولم يصنع هالات مقدسة للقادة التاريخيين رغم عظمتهم، فإذا كان ملوك بلاد الهلال الخصيب في التاريخ القديم قد نزع بعضهم إلى ادعاء الألوهية، كما في مصر وبابل، فقد عرفت اليمن ملوكاً أكبر منهم وأكثر قوة كالملك الرائش باران ذو رياش الذي بلغ أرض اليونان، وتقر باسمه بعض النقوش في مدينة ثيوبوس اليونانية، والملك ذو القرنين الذي كان له أول رحلة إكتشاف جغرافي في العالم القديم، والملك شداد بن شمس عاد الذي دانت له الممالك، وجعل أحد إخوانه وهو حمورابي بن شمس عاد ملكاً على بابل، والآخر وهو الملك لقمان بن شمس عاد ملكاً على الشام، وغير هؤلاء العظماء يوجد عشرات الملوك الذين تملأ أخبارهم كتب المؤرخين، ورغم ذلك لا نجد أحداً منهم يخلع على نفسه لقب إله كما صنع فرعون مصر أو النمرود بن كنعان، ولا يمكن أن نجد لشخصهم حتى تقديساً لدى الإنسان اليمني في القديم والحديث، ولعل العلة في ذلك تعود إلى طبيعة الشخصية اليمنية التي لا تبعث إلا من خلال الفكرة التاريخية ذاتها، فهي لا تنزع إلى الملك دونما فكرة تاريخية هادية لمسيرتها الحضارية، فهي إذن تؤمن بالفكرة وتستحيب لها دون الشخص، بل نكاد نجزم أن المجتمع اليمني هو المجتمع الوحيد الذي لا يقبل الشخصنة، فبمجرد أن يدعي الشخص فيه احتكار بطولة معينة فإنه ينقض عليه ويرميه في سلة المهملات، فهو لا يقبل إلا أن يكون النجاح والبطولة أمراً مشاعاً لعامة اليمنيين، ولذا لا نكاد نجد ملوكاً معظمين على طول التاريخ اليمني، فالتعظيم للفكرة لا للشخص، وهذا ما يوحي به خطاب الملكة بلقيس وهي تقول:" قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) سبأ. وقد ردوا عليها بما يوحي بأن القرار ليس قرار الفرد وإن كان ملكاً بل هو قرار يتخذه الكل بعد تشاور ولكن يجب أن تتوافر المعلومة الكافية لإتخاذ القرار، ولهذا أشاروا بضرورة أخذ الحيطة والإستعداد العسكري إلى جوار السياسة والدبلوماسية فقالوا :" قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)سبأ.
وهكذا تبدو الشخصية اليمنية عبر التاريخ متطلعة للمجد تتفتق عن طموح متعالٍ لا يقف عند حدود المصلحة، بل يتجاوزها إلى الالتحام بدورة التاريخ والحضارة الإنسانية، وكأني بمجتمع فريد في التاريخ البشري لا مثيل سوى مجتمع اليونان الذي لا يحركه –أيضاً- سوى الطموح والمجد، على عكس بقية المجتمعات التي يمكن أن تجمع بين القيمتين المادية والمعنوية، ويمكن أن ترجح كفة القيمة المادية في الغالب فتجنح لتحقيق مستوى معين من الملك والسلطة تقف عنده، هذا وإن تحليل الشخصية اليمنية في الواقع يحتاج إلى دراسة مستوفاة تحيط بها من كل زاوية، وهذا ما سنقوم به في دراسة مستقلة بإذن الله.