الإماميون والأمة جدلية الطائفية والسيادة

2018/03/26 الساعة 08:27 صباحاً

الإماميون والأمة 
جدلية الطائفية والسيادة
الباحث/ علي البكالي
مدخل:
تحت عنوان (الإمامة والأمة) جمع شريعتي كومة من المغالطات الكلامية للتنظير للإمامة بما يتطابق مع مفهومها عند فرق الشيعة الإثنى عشرية، ومثله فعل باقر الحكيم في كتابه (الإمامة) وقبلهما كان محمد باقر الصدر يتحدث عن الولاية ويلوي لها أعناق التاريخ لتتطابق مع توجهات التشيع الفارسي.
هكذا ينبري فلاسفة التشيع لإثبات نظرية الإمامة بأدوات علم الكلام، إنهم يحاولون إقحام النظرية في حقل المعرفة رغم إدراكهم خرافيتها وإبهامها، غير أن النزعة السياسية المتمثلة في الصراع بين الأمة والطائفة، أو بين القوميتين العربية والفارسية تشدهم لتلك المغالطات، وأحيانا يبوحون بالحقيقة في معرض المغالطة ولو من قبيل إظهار الاستهداء، يقول شريعتي
(حقاً إن جميع ما سمعته وقرأته في كتب الشيعة حول الإمامة وأصالة الإمام والاعتقاد بالإمام كان مبهماً لدي من قبل بحيث لم أكن مستعداً أن أتكلم كلمة واحدة أو أكتب شيئاً ما حول الإمامة، إذ لم يكن الموضوع واضحاً أمامي، واستمر الحال حتى فتحت أمامي فجأة وبشكل يشبه الإلهام والكشف نافذة على علم جديد، كنت غريباً عنه بشكل كامل، وقد فتحت هذه النافذة باعتبارها المنهج في دراسة الأمة والإمام فدخلت عالماً جديداً ولاحظت ان الإمامة التي لم أهضمها عن طريق البحث الفلسفي والكلامي أضحت بمنظار علم الاجتماع السياسي ضرورة حياتية وتجلت أمامي عظيمة ورائعة، بحيث لم تتوافر لدي أي مسألة أخرى اطلاقاً على هذا الحجم من القوة والوضوح)(1).
يمكننا القول أن الإمامة والإمام منهج سياسي ابتكرته وابتدعته الطائفة الشيعية بإزاء منهج الأمة، لتتجنب به منهجية الشورى والديمقراطية في الميدان السياسي، ودافعه الوحيد هو الشعور بالنقص والضعف، إذ لا يمكن لأقلية عرقية أن تحصد أغلبية توصلها إلى السلطة، سواء كان ذلك على مستوى كل قطر أو في سياق المجموع الكلي للعالمين العربي والاسلامي، وإذن فإن عقيدة الإمامة والحق الإلهي التي نادي بها التشيع قديماً وحديثا ستمثل حصان طرواده بالنسبة للأقليات الطائفية والقومية على السواء.
 لقد أضطر شريعتي كما يقول اضطراراً للكتابة في مسألة الإمام والإمامة رغم أنه لم يستطع ولن يستطيع هضم الفكرة وتحقيقها بمنهجية معرفية، ولكنه وجد نفسه مؤمنا بها عن طريق الكشف والإلهام، وهي الطريقة الوحيدة التي طالما لجأ إليها دعاة التشيع عبر التاريخ هروباً من أدوات ووسائل تحقيق المعرفة، فهم يهربون إلى ادعاء الاختيار الالهي والعصمة الكونية للإمام حتى لا يسائلوا معرفياً، وقد وجد شريعتي نفسه مضطراً لتسويقها تماشياً مع نزعته القومية الفارسية لا غير، فمهما تكن الفكرة غير قابلة للدرس والاختبار المعرفي إلا أنها تشكل عند شريعتي وعند باقر وغيرهم ضرورة وجودية لفارس بإزاء هوية العرب وقوميتهم.
ومن هذا القبيل فقد أضطر لابتكار منهجاً جديداً أشبه بالكشف والرؤى المنامية - حد قوله- ليقحم من خلاله نظرية الإمامة في علم الاجتماع السياسي! وهل رأيتم علماً يحقق بالكشف والرؤى المنامية والإلهام إلا عند شريعتي!
لقد وجدت إيران المعاصرة في الحالة العربية القائمة على الصراع الفئوي مدخلاً لاستعادة احلامها الامبراطورية، فدفعت بمجموعة من الكتاب ممن يبدي الاستنارة للتأصيل لمشروعها السياسي في الوعي الثقافي العربي والاسلامي، واتخذت من الطائفة مدخلاً للحرب على الأمة، فتحولت المعركة إلى صراع فكري وعسكري بين الطائفة والأمة، ومن هنا صار لزاماً أن نضع القارئ الكريم أمام الفارق بين مصطلحي الأمة والإمامة.
مفهوم الأمة:
ينزل التشيع مفهوم الأمة بمعنى الطائفة والجماعة وبمعنى الإمامة أيضا، وهو اعتساف للمصطلح ليتساوق وتوجهاتهم الطائفية، وسوف نأتي لذلك. ولنبدأ الآن التعرف على مدلول مصطلح الأمة في اللغة وفي الاجتماع السياسي.
تعدد مفهوم الأمة في القواميس اللغوية العربية بشكل واسع وبمعان مختلفة، بحسب استعمالات المصطلح ووروده في القرآن الكريم في سياقات مختلفة، فقد ورد بمعنى الجماعة قال تعالى (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس..) وبمعنى الزمن والجيل قال تعالى (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) وبمعنى الدين قال تعالى (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة).
وبعض أهل اللغة يجعل مفهوم الأمة بمعنى الطريق والسبيل، والبعض يعرفها بالعقيدة المشتركة، ويذهب البعض للحديث عن الأمة من خلال عناصرها القومية، المتمثلة في (التاريخ – اللغة – العادات – الثقافة -- الدين – الجغرافيا).
والحق أننا نجد اضطراباً كبيراً في تعريف الأمة وتمييزها عن مصطلحي الجماعة أو الطائفة والشعب، فالجامعة أو الطائفة وإن حملت بعض خصائص الأمة ليست شعباً، وحتى إن بدت متجاوزة للأوطان، فهي جزء من شعب أو من عدة شعوب، كما أن الشعب هو وعاء التعدد، فلا يمكن أن نطلق على جماعة أو فئة أو طائفة من لون واحد شعباً، لأن الشعب يحوي كل الجماعات والفئات والطوائف في نطاقه، أما الأمة فإنها بمنظور الاجتماع السياسي تعني مجموعة الشعوب التي تشترك في اللغة والتاريخ والدين، وتشكل من ثلاثيتها وجودها الحضاري المنافس لبقية الأمم. ورد في قاموس المعاني: الأُمَّة: جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ تَجْمَعُهُمْ رَوَابِطُ تَارِيخِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ، قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَا هُوَ لُغَوِيٌّ أوْ دِينِيٌّ أوِ اقْتِصَادِيٌّ وَلَهُمْ أهْدَافٌ مُشْتَرَكَةٌ فِي العَقِيدَةِ أَوِ السِّيَاسَةِ أَوِ الاقْتِصَادِ الأُمَّةُ العَرَبِيَّةُ الأُمَّةُ الإسْلاَمِيَّةُ(2).
ولكل أمة رافعة عقدية لرسالتها التاريخية، فأمة الغرب ذات رسالة مسيحية، وأمة العرب ذات رسالة إسلامية، وأمة الفرس ذات رسالة مجوسية، وأمة الصين ذات رسالة بوذية، وأمة بني اسرائيل ذات رسالة يهودية، وهكذا.
وتشكل الرسالة الثقافية جزءاً كبيراً من هوية الأمة، وحتى حينما تندمج بفعل الحراك التاريخي مع أمة أخرى في رسالة سماوية أو فلسفة ثقافية، فإنها تبقى مدينة لهويتها الرسالية الأولى غير قادرة على تجاوزها كونها تمثل العنصر الأساس لشخصيتها القومية.
فلو افترضنا – جدلاً- أن العرب جميعهم انتموا للديانة اليهودية أو المسيحية- وقد حصل في مراحل معينة من التاريخ القديم- فإن ذلك لن يغير من عروبتهم وينقلهم للشخصية الغربية، ليكونوا جزءاً من حضارة أوروبا، والعكس لو افترضنا أن الغرب انتمى للاسلام فإنه لن يكن جزءاً من حضارة العرب، وهذا معنى قوله تعالى( لكل جعلنا منكم شرعة ومناهاجا فلا ينازعنك في الأمر).
هذا بالضبط هو ما يفسر الحالة الفارسية العربية، إذ يستغرب البعض من أوجه الصراع العربي الفارسي متناسياً أبعاده التاريخية، فالفرس أمة من دون العرب كما أن العرب أمة من دون فارس.
لنعد الآن إلى شريعتي وتفسيره لمصطلح الأمة، فهو ينظر إلى وحدة أصل مصطلحي الأمة والإمامة لمجرد التشابه اللفظي، فالأمة عنده تساوي الإمامة، يقول(إنني أعتمد أصلاً على وحدة مصطلحي(الأمة) و(الإمامة) ومن هنا عثرت على رأس الخيط)(3).
ثمة مغالطة هنا واضحة لدى شريعتي فهو يعتسف مفهوم الأمة لصالح معتقد الطائفة، مستنداً إلى التشابه اللفظي، والعجيب أنه يعتقد أن كلمة (أمي) تساوي مصطلح أمة وإمامة، فيقول(وحينما انفتحت أمامي هذه الآفاق الواسعة الجديدة التفت إلى أن (الإمامة) و(الأمة) من جذر واحد، بل- في اعتقادي–  صفة (الأمي) تنتمي إلى نفس الأصل أيضاً)(4)، انظر إلى هذا الشطط الناتج عن قلة علمه باللغة، فهو يفترض أن مصطلح (الأمة) استخدام قرآني جديد ومثله (الأمي) وكأن المقصود بالأمة في الاستخدام القرآني هي الأمة الأمية! ثم يضع مصطلح القبيلة بإزاء الأمة بحجة الاشتراك في اللفظ بين قبيلة وأمة ذات قبله، وهذا شطط لا يعتمد على منهج علمي بقدر ما يبحث عن حيل لتبرير التعنصر والتعصب الطائفي!
لكن كيف يمسخ شريعتي مفهوم الأمة ليغدو طيعاً بمعنى الإمامة التي هي معتقد الطائفة، لاحظ، يقول شريعتي (وحيث أن كلمة (أمّ) تنطوي في الأصل على مفهوم التقدم، يضحى المعنى مركباً من أربعة معان:
اختيار،2-حركة،3- تقدم، 4-هدف.
ومع حفظ جميع هذه المعاني تبقى كلمة (الأمة) في الأصل بمعنى (الطريق الواضح)(5)، لاحظ كيف نفى عن المصطلح الدلالة التاريخية واللغوية ليجعله عقيدة مجردة، ثم هو يصرح بذلك فيقول(إذن، فالقيادة والاقتداء والمسير والطريق، تنطوي في كلمة (الأمة) وعليه: فالإسلام لم يعتبر الدم، أو التراب، أو التجمع، أو الاشتراك في المقصد والعمل وأدواته والعرق، أو الاعتبار الاجتماعي ... فما هو الرابط الأساس والأقدس في نظر الإسلام؟ انه "المسير"(6).
هكذا تلغي فلسفة التشيع كل معنى للأمة يتصل بوجودها التاريخي والجغرافي والحضاري واللغوي لتبقي فقط على مدلول الاشتراك في الهداية العقدية، ولكون الهداية في نظرهم لا تتأتى إلا بالإمامة، فإن الإمامة هي جوهر الأمة ومفهومها ومنطوقها، يقول شريعتي(ومن هنا فالإمامة عبارة عن: هداية الأمة إلى ذلك الهدف، ومن هذه الزاوية فمصطلح (الأمة) نفسه ينطوي على وجوب وضرورة الإمامة 100%)(7).
وهم بهذا يختزلون مفهوم الأمة في الطائفة التي تؤمن بالتشيع ونظرية الإمامة، ويرفضون مدلول الأمة التاريخي الذي تحدث عنه القرآن ذاته كما في قوله تعالى(ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل...) وقوله تعالى(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً).
وتفسير فلاسفة التشيع لمصطلح الأمة تفسير سياسي خالص، ينطوي على كثير من المغالطات - كما بينا بعضها- لتسمح بتسيّد الطائفة على الأمة من زاوية الاستحقاق الديني، فالهداية التي يتضمنها مفهوم الامة مشروطة بوجود إمام معصوم، ولا معصوم إلا أئمتهم، وبهكذا طريقة يجدون مدخلاً لتسيد الأمة.
وإذا كانت الأمة العربية والإسلامية تؤمن بالديمقراطية أو الشورى ولا تقبل بفكرة الإمامة فهي تخالف مدلول الأمة، ومن حق الطائفة أن تشن حروبها ضد الأمة لتتسيّد عليها تحقيقاً للهداية.آه
والحق أن الأمة ليست مشتقة من (أمّ) بالتشديد والفتح بمعنى تقدم الناس أو صلى بهم - كما زعم شريعتي- ولكن من (أُم) بالضم والتسكين بمعنى الولادة للوجود الاجتماعي، فهي تشير إلى اشتراك في ثلاثة أشياء هي:
       العرق أو النسب الجامع – الجغرافيا الجامعة – التاريخ الموحد
وما من شك في أن العقيدة والدين تمثل دافع الاجتماع ورافعة النشاط التاريخي للأمة، غير أنها تكون مكملة للوجود الحضاري لا بادئة له، فالعرب -مثلاً- وجدت قبل مجيئ الاسلام، وكانت أقوامهم وقبائلهم موحدة الجنس واللغة والتاريخ والجغرافيا، ومثلهم أمة فارس وغيرها، ومن هنا فإن مقومات وجود الأمة ليست مقتصرة على الهداية كما تسوق نظرية الإمامة، ولكن يقع الدين والعقيدة كأحد مكونات الوجود الحضاري للأمة.
ومن الملاحظ جداً، أن التفسير الفارسي لمفهوم الأمة يحاول الهروب بها عن المضمون التاريخي والجغرافي واللغوي إلى المعنى المتجسد في الإمام والإمامة لسببين اثنين:
الأول : التخلص من الهوية العربية المقاومة للفرسسة والتشيع الفارسي.
الثاني: فتح المجال للمشروع الفارسي المدعوم بنزعة التشيع لغزو البلاد العربية والإسلامية تحت مسمى مشروع الأمة المستلزم لوجود الإمامة والإمام القائم.
 وهكذا تغدو كل البلدان العربية والإسلامية ممن لا تدين بالإمامة معرضة للصراعات الطائفية الممهدة لحلم الإمامة الفارسية.
منشأ الصراع الطائفي:
من الطبيعي جداً أن تحوي شعوب الأمة على جماعات وطوائف أشبه بتنظيمات سياسية ونقابية ومهنية، فتلك طبيعة التنظيم المجتمعي في الحضارات والمدنيات عبر التاريخ، ومن الطبيعي أيضاً أن تحدث الصراعات السياسية بين تلك الفئات والجماعات على السلطة السياسية أو غيرها، ويظهر هذا جلياً في كل الحضارات والدول والامبراطوريات، وهو ما حدث أيضاً في التاريخ الاسلامي بين الصحابة ثم بين الأمويين والعباسيين ثم العباسيين والعلويين الخ، لكن من غير الطبيعي أبداً أن تنشأ خصومة تاريخية بين طائفة معينة وبين الأمة بمكوناتها السياسية والثقافية والاجتماعية، فإن مثل هكذا ظاهرة يغذيها دون شك صراع قومي بين أمتين وحضارتين وهويتين، فالصراع السياسي بين مكونات شعب ما وأمة ما مهما بلغ لا يمكن أن يتحول إلى خصومة تاريخية وعداءً مقدساً ما لم يحط بسياج شائك من العلاقات التصادمية بين حضارتين وأمتين مختلفتين كل الاختلاف.
 وهذا في الحقيقة هو جوهر المشروع الطائفي الفاعل في البلاد العربية في هذه المرحلة.
لقد كانت دولة فارس فيما قبل الإسلام تعد نفسها حاكمة للشرق ومالكة لأمره، وكان كسرى يتخاطب مع زعماء القبائل العربية كما لو كانوا أجراء لدولته، فمملكة المناذرة كانت ممتدة من العراق ومشارف الشام شمالاً حتى عمان جنوباً، واستمرت كذلك حتى احتلها الفرس فأصبحت مستعمرة فارسية.
وكان كسرى عنجهي في تعامله، يحتقر العرب، ويذمهم، ويعتبرهم خدماً له، وذلك واضح من خلال قصته مع النعمان بن المنذر، حيث أخذ يعدد مفاخر فارس مقارنة بالأمم الأخرى حتى تناول العرب فقال" ولم أر للعرب شيئا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة ومع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطير الحائرة يقتلون أولادهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضا من الحاجة قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها فافضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع ... (8).
 وكانت حروب المناذرة والغساسنة من قبيل استخدام استراتيجية ضرب العرب ببعضها كما هو حاصل اليوم تحت مسمى التشيّع والطائفية، وقد استمرت حروب الغساسنة والمناذرة قرابة عشرة أعوام (9) ضعف فيها الطرفان فسقطت مملكتهما بيد كسرى.
 ودارت عدة وقائع بين العرب وفارس للانعتاق من أسر الاستعمار الفارسي قبل الإسلام ومنها موقعة يوم ذي قار المشهورة التي هزم فيه العرب الفرس بعد قتل كسرى للنعمان بن المنذر(10).
وكان النعمان بن المنذر قد خاض مع كسرى حروبا متتالية ضد البيزنطيين، ولكنه لما عاد للفخر بعروبيته ساءت العلاقة بينه وبين كسرى فقتله كسرى. 
وعمدت فارس فيما قبل الإسلام إلى بث عناصرها وإسكانهم في الحواضر العربية ما بين اليمن وبلاد النهرين لتسيّدها والوصول لحكمها، مستغلةّ الضعف والفرقة بين الشعوب والقبائل العربية وبعض الظروف والصراعات الداخلية، ومن ذلك إرسال كسرى عدد ستة ألف من سجنائه ومقاتليه مع سيف بن ذي يزن إلى اليمن لمساعدته في حروبه على الأحباش، مشترطاً عليه أن يجعلهم سادة في قومه إن ظفر بالأحباش(11)، فما كان من العناصر الفارسية إلا التخلص من الملك التبعي سيف بن ذي يزن بعد أن قام بنشرهم وتوزيعهم على كل مناطق اليمن لجمع الضرائب تنفيذاً للاتفاق بينه وبين كسرى لتؤول السلطة والملك إليهم من بعده، وقد حدث ذلك بالفعل وصار باذان حاكماً لليمن من قبل كسرى.
وشن باذان حروباَ شرسة ضد من تبقى من أقيال اليمن وملوكها آنذاك، وأسس مجلساً للحكم أسماه مجلس السادة الفارسيين "وظل الفرس يسمون أنفسهم بـ(السادة والأحرار) تعصباً لعنصرهم، واحتقارا لغيرهم من الشعوب لا سيما العرب (12)، ومن ذلك اليوم صار مصطلح السادة يرمز إلى طبقة الحكام الوافدين لا المحليين(13). 
واستمر الصراع بين اليمنيين أصحاب الأرض والدار والفارسيين المحتلين لليمن منذ ما قبل الإسلام، ورغم انضوائهم تحت لواء الاسلام بعد إسلام باذان إلا أن نزعة التمييز والاستعلاء والتعصب وادعاء الحق الانفرادي في الحكم والسلطة وتملك اليمن ظل يغذي وجودهم وتماسكهم التاريخي، ويمنعهم من الذوبان والإندماج الاجتماعي على طوول فترات التاريخ الوسيط والحديث والمعاصر.
وقد وجدت الأسر الفارسية في بداية العصر العباسي في دعوة وطموحات يحي بن الحسين بن طباطبا الملقب بالهادي فرصة لتفكيك دولة الخلافة العباسية واستعادة أمجاد فارس، وهو الشخص الذي درس وتعلم في فارس منذ طفولته، فاختارته للمهمة واستهدفت به مناطق بعيدة ونائية عن أنظار الدولة العباسية لتحقيق أحلامها المتجانسة مع أحلام الهادي، فكان اليمن على رأس تلك المناطق المظلمة، حينها دفعت العناصر الفارسية بالهادي نحو اليمن، وجهزت له جيشاً من قبائل الديلم وطبرستان والجيل، فغزا بهم صعدة وأخضع أهلها، ثم استمر في حربه على أقيال اليمن ومناطقها وقراها مسجلاً أبشع جرائم الإبادة الجامعية والعرقية في حق اليمنيين حتى وصل صنعاء.
 وكانت الأسر الفارسية تقف إلى جواره وتفتح له الطريق وتقاتل معه، ثم اندمجت تلك الأسر الفارسية بمسمى الآل والهاشمية وصارت جزءاً منها، ومن لحظتها نشأ في اليمن نظام الإمامة نسباً وسلطة، وخرج اليمنيون بذلك عن مفهومي الوطن والمواطنة، حيث انتزع منهم الوطن فصاروا محكومين بسلالة تدعي الحق الحصري المقدس، وانتزعت منهم المواطنة فصيروا عبيداً وخدماً للإمامة، وجيشاً مقاتلاً معها، وهم مواطنون من الدرجة الثانية والثالثة، فالسيادة انحصرت على العرق الآري الوافد من فارس والمزور للأنساب، أما اليمني فهو أقل شأناً منه، وفي أحسن الأحوال خادماً له.
ولا تزال هذه الفوقية الاستعلائية تتحكم في العنصر الفارسي المتهيشم حتى لحظتنا هذه، فهو يحمل السيف في كل مرحلة يبدأ فيها اليمنيون المطالب بالمساواة والمواطنة، كونه يعتقد أن المواطنة والمساواة ستسلبه الحق المقدس في حكم اليمن، وستفرض عليه الهوية اليمنية وتقطع صلاته التاريخية بفارس، في حين يعتقد أنه لا يزال محتفضاً بهويته الأصلية وعرقه النقي، واستعلائه المميز.
ومن هذا القبيل تتوالى الحروب العنصرية والسلالية ضد اليمنيين مجيشة قبائل الفيد في مناطق الشمال الأقصى التي دربتها وصنعتها صناعة تجهيلية لهذا الغرض، ولعل حروب الحوثية آخر شاهد حي على العلاقة التاريخية بين العنصر الفارسي والشعب اليمني.
 والغريب أنه في كل مرحلة تنشأ فيها دولة في بلاد فارس تعاود فيها الإمامة الظهور في اليمن ومناطق أخرى، أشبه باستدعاء الوالد لأولاده، وسوف نكشف في لقاء قادم عن تاريخ العرق الفارسي وتحولاته في اليمن وتحولاته إلى النسب الهاشمي. 
الطائفية والأمة:
 هل الطائفية جزء من كيان الأمة؟ أم هي ناتجة تداخل هويات وقوميات متعددة؟
في مؤتمر الطائفية وصناعة الأقليات المنعقد في الأردن بتاريخ 15/سبتمبر 2014م برعاية المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عزا الدكتور عزمي بشارة نشأة الطائفية السياسية المشرقية إلى استغلال الاستعمار للمنظومةِ الاجتماعيةِ القائمةِ، وطريقة تأسيسه لقواعد بناء الدولة، فالطائفيّةَ السياسية التي تستثمر التَبعيّة لدِينٍ أَوْ لمَذهبٍ ديني لتحويلِ أتباعِ هذا الدينِ إلى جماعةٍ تُحافظُ على نفسِها في وجهِ كل ما تراه تهديدا لها، ثمّ تحويلها إلى قوّةٍ سياسيّةٍ لها مطالبُ من الدّولة، هي ظاهرةٌ ترافقت مع نشوء الدّولةِ الحديثة (14).
أما الدكتور برهان غليون في مداخلته بعنوانها “الطائفية في الصراعات الوطنية والإقليمية”، أوضح أن الطائفية السياسية برزت عندما فشل مشروع الدولة الوطنية وحين أصبحت الدولة وسيلة للسلب والظلم والقهر، ولم تقدم تلك الدولة الحديثة للمواطن شيئًا غير الذل والقهر وتجريده من أي حماية، فأصبح الناس يبحثون عما يؤمن لهم أمنهم وحمايتهم ومكانتهم(15).
والحقيقة أن الطائفية هي نتاج تداخل الهويات والقوميات المختلفة في مراحل الصراع التاريخي، حيث لا يوجد شعب خالص ولا أمة خالصة، ولكن هذه الهويات أو القوميات تتحول إلى أقليات متعايشة ومندمجة في أغلب الأحيان، غير أن التدخلات الخارجية تستمر في إحياء نزعة الطائفية عبر دعم الأقليات، كون الأقليات تعتبر مدخلاً مهماً للصراع الحضاري بين الأمم، وتزداد حدة الصراعات الطائفية كلما ارتفعت حدة الصراعات الحضارية بين الأمم، حيث تمثل الأقليات والطائفية بيئة خصبة للاستعمار والإحتلال الأجنبي، وتشكل مظهراً بارزاً لما أسماه مالك بن نبي ب((القابلية للاستعمار))(16).
والزعم بأن الطائفية تشكل جزءاً من كيان الأمة ووجودها محض افتراء، لأن الأقليات إما دينية أو قومية.
فالأقليات الدينية هي نتاج التداخل الثقافي بين الأديان والفلسفات، كالمسيحية والإسلام التي نتج عنها طائفة الأقباط والدروز المتفرعة من الإسماعيلية وغيرها.
أو الأقليات العرقية المنسلة عن انزياح قوميات ذات هويات مختلفة تماماً عن هوية الأمة، ومن ذلك الأقليات ذات النزعة الفارسية في بلاد العرب، والأقليات العربية في بلاد فارس.  
وتستخدم الأقليات كسلاح في معركة الصراع الحضاري بين الأمم، حيث يكون دورها هزيمة الأمة من داخلها عبر أدوات التفكيك والتفتيت للنسيج الاجتماعي والهوية الثقافية.
 والأقليات العرقية أشد خطورة في تدمير الشعوب والمجتمعات من الأقليات الدينية، حيث يسهل تبعيتها لأصولها العرقية لتغدو أداة فاعلة من أدوات الاستعمار.
ولا يمكن هنا اعتبار الاختلافات الفقهية والمذهبية والفلسفية والسياسية داخل الأمة الواحدة صوراً للطائفية، لأن ذلك هو معنى التعدد والتنوع الثقافي والسياسي، وقد ظل المجتمع العربي والاسلامي موحداً لأكثر من تسعمئة عام رغم تعدد المدارس الفكرية والمذاهب الفقهية، ولم تكن أبداً تلك المدارس المذهبية مؤسسة لاختلافات الهوية والوجود الحضاري.
لكن الأقليات العرقية والقومية هي المغذي الرئيس للحركات الطائفية "فالأقليات الأقوامية تطرح من المشاكل ما لا يمكن حله في إطار المفاهيم والممارسات الراهنة للسياسات العربية، ويصبح الوضع اكثر تعقيداً حينما يتعلق الأمر بأقلية دينية وأقوامية معا كما"(17)
وقد ظهرت في بعض مراحل التاريخ الاسلامي خلافات سياسية ذات نفحة طائفية كانت تغذيها الصراعات القومية، لا سيما بين نزعة العروبية والشعوبية الفارسية، لكن في الأغلب الأعم كان حاديها الشعور بالأقلية بإزاء الكثرة السياسية الغالبة، فالأقليات تعاود البحث الأجناسي حينما تفقد الثقة بالوصول إلى السلطة السياسية، ومن هذا القبيل كان التشيع العربي يشعر بالنقص لكونه يمثل أقلية سياسية تناضل من أجل احتكار السلطة قداسةً وديناً، فمدّ بسببها يداً للشعوبية ثم الصفوية ثم الخمينية ومذهب ولاية الفقيه، ليس لشيء إلا للاستقواء على الأغلبية العربية المناهضة لتوجهات الإمامة التي يدعيها التشيع الأقلياتي.
ويرى الدكتور غليون ضرورة التفريق بين الأقلية الأقوامية التي تتمتع بلغة وتاريخ وثقافة خاصة بها كالأكراد مثلاً، وبين الأقليات الدينية داخل الأمة الواحدة، حيث يؤكد التاريخ العربي في القرن التاسع عشر والعشرين أن أكثر الحروب الأهلية كانت بين طوائف دينية عربية، أو بين دول وبعض أقاليمها الأقوامية المتميزة (18).
ولكننا أن أشد هذه الأقليات استلاباً للأمة هي الأقليات التي تمازج بين التمذهب الديني والإعراقية المتدثرة بعوامل التاريخ كالعناصر الفارسية في الجسد العربي، فهي تحول القضايا الثقافية الى قضية قومية لا تهدد استقرار الدولة وحسب ولكن تقوض الوجود الجمعي للمجتمع التاريخي ككل، وتحاول طمس هويته وإلحاقه بغيره، وهو ما يمكن أن تسميته بالسلب الحضاري، فمضمونه تخلي الشعب أو الأمة عن كل هوية قومية تجاه الجماعات القومية الخارجية، أي أن الشعب والأمة يصبح تابعاً لقومية أخرى مستعمرة له عبر الأقليات العرقية التابعة لها، وهذا هو الحال الذي نشاهده في كل من العراق ولبنان واليمن وسوريا.
لقد اصطنع الاستعمار الغربي مشكلة الطائفية العربية ووسع من هوتها خدمة لتوجهاته الاستعمارية، فبعد تلاشي الدور العثماني في العراق في العام 1917م سعت إيران إلى بلورة تيار سياسي شيعي عراقي ينادي بضم العراق والحاقها بإيران(19)، وبعد المناقشات التي أجراها السير أرنولد ويلسون المفوض البريطاني في عام 1919م مع قيادة هذا التيار تكشفت أبعاد الدور الإقليمي والدولي في صناعة الطائفية، حيث انقسمت الشيعة إلى ثلاثة تيارات، طالب أحدها بضم العراق لإيران، فيما طالب الآخر بإبقاء العراق تحت الانتداب البريطاني، أما الثالث فطالب بخروج الاستعمار وتنصيب ملك عربي(20).
ولعب الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003م دورا بارزاً في إعادة صياغة العراق الطائفي، حيث قررت الإدارة الأمريكية تصفية البعث العراقي وتسليم السلطة لمناوئيه من الشيعة، وتدريجيا آلت السلطة إلى التيار الايراني في العراق، وارتفعت دعوات التطييف وصار القتل بالهوية عنوان المرحلة، ولعل في أحداث 2005 و2006م في العراق دلالة عميقة على دور السياسات الخارجية في صناعة المسألة الطائفية، فالكتل التقليدية المحلية لم تصطدم ببعضها كما كان متوقعا، ولكن وجدت جماعات سياسية تمارس العنف باسم الطائفية لصالح المشاريع الخارجية والاستعمارية، تلك المشاريع التي تهدف احتلال العراق واستغلال ونهب موارده.
في اليمن وقف الاستعمار البريطاني بقوة في وجه ثورة سبتمبر 1962م، وكان جزءاً من سلاح الإماميين ودعمهم يصلهم من قبل سلطات الاحتلال البريطاني.
وفي العام 2011م احتضنت السفارات الأوروبية وسفارة الولايات المتحدة الأمريكية حركة الصمود، الجناح الثوري للحركة الحوثية، وفتحت لممثليها الأبواب، ومدّت يداً سخية للمنظمات التي تنتمي لذات التوجه، وكانت تلك المنظمات تسوق لحروب الحوثية في صعدة وعمران والجوف أنها صراع بين جماعات دينية، بل جعلت من الحوثية حركة انتصاف لمظلمة تاريخية، ولم ينتبه اليمنيون للعبة الاستعمارية إلا بعد أن سقطت صنعاء، وارتفع صوت الطائفية، وجهرت الحوثية بالحق الإلهي وعودة الإمامة.
ولا تزال سياسات الدول ذات النزعة الاستعمارية تقف إلى جوار مشاريع التفكيك والتطييف في المنطقة العربية، تحت دعوى محاربة التطرف بتطرف نقيض، وهي استراتيجية لا تستهدف القضاء على التطرف والارهاب، ولكن تحويل المنطقة برمتها إلى بركان ملتهب بفعل الطائفية والتطرف المضاد.
وبحسب دراسة  صادرة عن مركز بروكنجز في الدوحة بتاريخ 11/ يوليو/ 2014م أظهرت المؤشرات أن الولايات المتحدة في العراق كانت أقرب لتدمير الدولة منها إلى بنائها، كما أن الولايات المتحدة أثبتت من خلال تحالفها مع إيران أن ما يهمها فقط هو أمن إسرائيل، وأنها مستعدة لمنح إيران مساحة من الهيمنة على الشرق الأوسط مقابل التخلي عن برنامجها النووي، وهو بالفعل ما حدث في بلدان عربية متعددة كاليمن وسوريا والعراق وليبيا. 
الهوامش:

علي شريعتي، الإمامة والأمة، ص 37-38.
قاموس المعاني، ص341.
شريعتي، مرجع سابق،ص40.
نفسه، ص45.
نفسه، ص48.
نفسه، ص50.
نفسه، ص54.
نقلاً عن صحيفة الرياض  الجمعة 03 ربيع الثاني 1423العدد 12411 السنة 38  وفود العرب على كسرى.
نظر سالم أحمد محل، العلاقات العربية الساسانية، ص120-123.
 شوقي ضيف، الأدب الجاهلي، ص333.
 وفد سيف على النعمان بن المنذر عامل فارس على الحيرة، فشكى إليه، و استمهله النعمان حتى وفادته على كسرى، فلما وفد قدمه إليه، و أخبره بمسألته، فقال كسرى عن أرض اليمن إنما هي أرض شاه و بعير، و لا حاجة لنا بها، و أعطى سيفاً بعض الدنانير فنثرها سيف، و قال: إنما جبال بلادي ذهب و فضة، فشاور كسرى رجاله في الأمر، فأشاروا عليه بإرسال السجناء الذي سجنوا لاتهامهم بالقتل للقتال مع سيف بن ذي يزن، فإن هلكوا، كان ذلك ما يريده كسرى، و إن ظفروا باليمن من الأحباش انضمت ولاية جديدة إلى أعمال فارس، فعمل كسرى بالمشورة، و أرسل مع سيف جيشاً من المحكومين بالقتل، وقال له:(إن ظفرت بعدوك فأجعلهم سادة في قومك).
 طه الدليمي، الشيعة عقيدة دينية أم عقدة نفسية. وانظر أيضاً بشأن (مجلس السادة الفارسيين) دراسة تحليلية لحقيقة النسب الهاشمي المزيف للباحث صريح واضح.
الباحث علي الحوالي، رسالة الماجستير، التعليم في عصر الدولة الصليحية في اليمن.
مقررات مؤتمر الطائفية وصناعة الأقليات المنعقد في الأردن بتاريخ 15/سبتمبر 2014مhttp://rawabetcenter.com/archives/47413  - 
 نفسه.
 انظر مالك بن نبي، كتاب تأملات، وكتاب القضايا الكبرى.
 برهان غليون، الطائفية ومشكلة الأقليات، ص6.
 المرجع السابق، ص7.
دور التدخلات الخارجية في صناعة الأقليات الطائفية في العراق، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،ص4.
 نفسه،ص5.