للديمقراطية نَفَسها الخاص وللحرية مذاقها المتميز في حياة الشعوب التواقة إلى الحرية والتبادل السلمي والسلس للسلطة، التي تعتبر في أساسها أداة لخدمة الشعب ومشاركته في الحكم وتحسس آلامه وأماله وليست باباً من أبواب التنمُر على الشعوب وتحقيق الثراء على حساب أقواتها. غير أن ما جرى في اليمن بالأمس محزن حد البكاء وما جرى في ماليزيا اليوم مبهجٌ حد النشوة ويبعث في النفس الأمل.
لأنه في الوقت الذي حكم فيه علي صالح اليمن مدة 33 سنة قبل ان يتركها ومبانيها حطاماً وأهلها شيعاً وأحزاب، فضلاً عن تسليمها لعصابات إجرامية سادية تتلذذ بعذابات الشعب وتنتشي بلون دمائه الحمراء القانية!! قاد مهاتير محمد ماليزيا فترة دامت 22 سنة نهض بها إلى مصاف الدول المتقدمة في كل مجالات الحياة وحقق في عقدين من الزمن مالم يحققه أي حاكم عربي في عقود كثيرة وسلمها نمراً أسيوياً وثاب يُنافس اقوى الاقتصاديات ويضاهي أرقي الدول. بلداً تسامت فيه همم أبنائه وتساوت بناطحات السحاب التي تملئها وتزاحمت فيها الجامعات التي تنافس جامعات أوروبا وأسيا في مستوياتها العلمية وشبكات طرق وصناعه غير عادية!!
وفي الوقت الذي اعتبر صالح المواطن اليمني الأصيل سلائل أول حضارة إنسانية شُيدت على الأرض ضهراً منحنياً يركبه ويتسول بشحوب لونه ونحول جسده العالم أينما حل وارتحل، وقَدَمَ مجتمعه للعالم على أنه ثعابين إرهابيين فقط للتكسب وجمع المال والسلاح بهم ولمحاربتهم وتطهير أوساطهم من الإرهاب وسموم الأفاعي!! ارتقى مهاتير محمد بالإنسان الماليزي وأدخله من الغابات إلى المدن وابتعث أبناؤة إلى كل الدول المتقدمة للتحصيل العلمي كي يعودوا بناةً ومؤسسين وصناع قرار وباحثين أكاديميين بطرق علمية حديثة وسخر كل إمكانيات الدخل القومي للبلد لخدمته والسهر على راحة أبنائه.
وفي الوقت الذي لم يصبر علي صالح أربع سنوات بعد إسقاط حكمه بثورة شعبية عارمة وتركه محصناً قضائياً يتمتع بدولة المال التي اكتنزها من عرق الشعب وكنوز ثرواته وكدسها خارج الوطن تحت حسابات وشركات وهمية، ومنحه الفرصة في ممارسة كل حقوقه السياسية والحزبية وعودته إلى السلطة من جديد بعد سقوطه، إلا أنه هدم المعبد وخذل الأهل وتنكر للجيران. عاد مهاتير محمد وهو في عقده العاشر إلى قيادة البلد من جديد بعد أن ترك السلطة طواعية في أوج قوته وعنفوان ابداعه وتوقد فكره وبعد خمسه عشرة سنة من الراحة والاستجمام الفكري والسياسي، عاد ليس طمعاً بالسلطة ومكاسبها المادية والسياسية ولكنه خوفاً من أن يرى ما بناه وأفنى عمره في سبيل تحقيقه يتلاشى والشعب الذي احبه يتشظى والمجتمع الذي ينتمي إليه يتفكك إلى طوائف وأعراق.
وفي الوقت الذي أعاد مهاتير محمد إلى الواجهة حب الناس له ورصيده وظله الوطني الأثيل ومكنه من التولي من جديد ثقةً به وبإخلاصه الذي لمسه اثناء فترة حكمه!! حاول على صالح العودة إلى الحكم عن طريق استجلاب خيله وشياطينه وكل ثعابين الصخور وعقارب الكهوف وضفادع السواقي والزِيَّل، وقُمَل معاطن الأبقار والإبل واستخدمهم كواجهات له ومراكب كي يعود للسلطة ويلتف بهم على مبادئ الديمقراطية والجمهورية والحرية التي تجرع الشعب في سبيلها أنواع العذاب.
أسدل علي صالح الستار 30 سنة من عمر حزبه بعد أن استخدمه كمبارز في احتفالاته وانتخاباته وتركه بعد رحيله بدون راعٍ أو مرشداً ودليل جائعاً خائفاً في الداخل مشتتاً هائماً على وجهه في الخارج. تخلى مهاتير محمد عن حزبه وأسدل الستار على حقبة 60 عاما من السيطرة والهيمنة بعد أن أصابه الداء وتسرب في جسده الوهن، وتحالف مع من خاصمه وقاضاه وعارضه من احزاب المعارضة إبان مرحلة حكمه كي ينقذ بلده من السقوط وحتى يموت ونفسه راضية وما حققه محفوظ ومصون.
لقد تجلت الديمقراطية الماليزية في أبهى صورها حينما اعترف رئيس الوزراء الذي خسر الانتخابات وغالبية وزرائه بخسارتهم. واعترفوا بالهزيمة مؤكدين بأنهم يحترمون إرادة الشعب الماليزي، واحترام مبادئ الديمقراطية البرلمانية.
وتجل الحقد العصبوي السلالي الكهنوتي البغيض الذي خلفه صالح بكل صوره وروائح قبحه وتنكر للشعب وألغى مبادئ وصور الديمقراطية الوليدة في اليمن وحل الأحزاب وألغى قانون تعددها محاولاً إحلال محلها خرافات الحق الالهي وتوارث الحكم في أُسر في الأصل ليست يمنية ومشكك حتى في أصولها الهاشمية ليعيد اليمن إلى ما قبل اختراع المطبعة وحكم الناس بالعرف وتمائم أصحاب الكهوف