تقرر نواميس الكون وحركة التاريخ وسنن الحياة، أنه لا توجد نهضة دائمة ولا ارتكاسٍ دائم كما أنه لا يوجد نصرٌ دائم ولا هزيمة مستدامة إلا بتوفر أسباب ومقومات هذا النصر وتلك الهزيمة أو هذه النهضة أو ذلك الارتكاس. ومع التأكيد على أن قوانين الكون لا تحابي عرق او فصيل وتعطيه افضليه مطلقة واصطفاء على الغير وتجعل منه محركاً للنهضة والسلام والرخاء، دون ان يمتلك الأسباب العملية التي تمكنة من ذلك.
ولا يكفي اعتماده على "سمو ونقاء" عرقه أو تمسحه بأطراف ثوب هذا الرسول أو ذلك النبي فقط لينال شرف لا يستحقة. وهكذا دوماً وفي اتساق دائم مع العقل والمنطق من يعمل بعقلية وطنية مخلصة تسمو لديه المعاني الوطنية على الأنا او القبيلة والعرق وينطلق لفضاء الوطن الرحب ويتجنب الظلم والاستبداد عندها فقط ينال ثقة الشعب بكل مكوناته ومشاربه الفكرية.
ومن ثم فإن عوامل النهضة الطبيعية في اليمن لا حدود لها سواءً من حيث الوفرة أو التجدد والديمومة وعدم النضوب، تتوزع بين الموقع الاستراتيجي لليمن وموانئه العالمية وبحاره الغنية التي تتجه اليها أنظار العالم، والتي إن استُغلت بطريقة علمية ووطنية ستدر عشرات المليارات على الشعب اليمني دون عناء. كما ان اليمن يمتلك ثروات طبيعية تحت الأرض وفوق الأرض في الجبال والسهول لا تساوي ثروات الخليج قاطبة حيالها شيء. كما وهب الله اليمن شعباً صبوراً "أولو قوة وأولو بأس شديد" تحدى الجبال والسهول وقهر الطبيعة وأخضعها وجعل منها حدائقاً للفواكه ودواليَّ للقمح وسلالاً وغلال عوامل كافية لصناعة حياة كريمة للشعب اليمني فوق العز والرخاء.
بيد أن بلاءها المزمن كان ولايزال الأنظمة التي كرَّست الجهل الدائم وثقافة التعصب والتمذهب والانتهازية وقسَّمت الشعب اليمني إلى طبقات، عسكر في أعالي الجبال أُمليَّ عليهم أن الزراعة والتجارة والحرفية مستهجنة ومخلة بالمكانة الاجتماعية فعاشوا البؤس كله صنوفه وألوانه، وطبقات مزارعين في السواحل والسهول منتقصي الحقوق السياسية والاجتماعية يعيشون على هامش السياسة والمشاركة في الحكم والثروة وصناعة القرار السياسي، ممارسات وإملاءات من قبل الفئات المتسلطة على الشعب تحت ذرائع سمو العرق أو دعاوى المشيخ والتميز الطائفي، المناطقي أو الجهوي.
وكما استباحت تلك الانظمة الانتهازية كل شيء في صراع وجودي ودائم لاحتكار السلطة بلا ضوابط أو استحقاقات، سرعان ما تمخّض عن هيمنتها وإقصاءها للأخر خضوع مهين للبعض قاد إلى الفشل، وتَطَبُع المغلوب بطباع الغالب، وارتهان البلاد وضعفاء النفوس ومد أيديهم إلى الخارج، وإدارة شؤون البلاد بالترقيع والمسكِّنات التي عززت الاستبداد والتبعية وضروب الفساد. الأمر الذي فتح الثغرات في المجتمع واستدعى الأطماع والمؤامرات الخارجية للولوج والتدخل السافر في كل شيء.
الأمر الذي أصبح مُعيقاً دائماً للطبقات العلمية الوطنية والثقافية حاملة مشاعل النور وأدوات التغير الحالمة بالنهضة والارتقاء إلى مصاف الدول المتقدمة واللحاق بركبها الحضاري. تتطلع إلى مستقبلٍ أشرق وأعز لها وللشعب، بل عززت القوى المعيقة في أعماق النشء من الشباب والدارسين وراء البحار بكل مستوياتهم العلمية والتخصصية، التركيز على التخصصات المهنية للحصول على الوظيفة العامة التي تمكنهم من العيش فقط ولا تدفع بهم إلى أفاق الفكر والابداع والنهوض بالأمة والمجتمع. فألجأتهم إلى التمسح تحت أقدام الشيخ والسيد والوزير وصاحب الشركة والمشروع التجاري للحصول على الوظيفة بدلاً من التمركز والانتشار في مفاصل الدولة والجامعات ومراكز البحث العلمي لانتشال الأمة من براثن الجهل ووحل الانهزام.
صُعِقتُ مؤخراً عندما رأيت طالب يمني تخرج من ماليزيا في مجال الاقتصاد عاد ليعمل كضابط أمن مُنح رتبة الملازم ويتباهى بمآله القدري هيمنة ثقافة الوظيفة والبحث عن جاه مزيف وقد لا يصلح أن يكون ضابط أمن لأنه غير متخصص ولن يعمل كاقتصادي لأنه لم يحمل الرسالة الحقيقية والطموح للنهضة بالاقتصاد.
حَجَبَتْ الطبقات السياسية المتخشبة في اليمن سماء الحرية على الكوادر والمؤهلين المذكورة سلفاً، مبادئ الحرية التي تعد من أهم مقومات الابداع عند الشعوب الحرة لمتصدرة للمعرفة والتميُز والتعاطي إيجاباً مع باقي والشعوب الأخرى في كل مجال.
وأجهضت قيمة العلم بعد مصادرة الحرية وركزت على هدم القيم الانسانية التي تعد من المقومات الاساسية للنهضة والمتمثلة بالعدل، والتعاون، والإيجابية، والتسامح، التعايش، والرحمة، الصدق، والأمانة، الحافظة للمجتمعات من التمزق والانهيار.
وختاماً أختم بمقولة قالها مهاتير محمد عند تولية السلطة في آخر سني عمره مخاطباً شعبه- سنحرص على إعطاء كل موظف الراتب الذي يمكنه من العيش الكريم ويعفه عن مسألة الناس ومد يده إلى الرشوة أو المال العالم، ويجب تخفيض الرواتب العليا لمسؤولي الدولة ورفع الرواتب المنخفضة، ومن أراد التميُز عليه أن يبدع في الخدمة والعمل ويتميز بإبداعه وعمله حتى يجبرنا على إعطائه ما يميزه على الآخرين. ولا عودة لنا نحن اليمنيين إلى الطريق السوي والصعود إلى قمم حضارتنا المعهودة من جديد كباقي الشعوب والتمتع بخيرات أرضنا إلا بتكريس قيم العدل والعلم والتعايش السلمي والاخلاص للوطن ومحاربة الكهنوت بأشكاله المختلفة والتعصب المقيت والظلم في سرنا والعلن. وتمسك المواطنين بحقوقهم الطبيعية الانسانية والقانونية واحترام القانون وأداء واجباتهم الوطنية ومقاومتهم للظلم والذل والقوانين المستحدثة من قبل الطغاة كفيل بنسف قوى الاستبداد والتخلف ووأدها إلى الأبد