علي البكالي
يكاد يجمع الباحثون والمفكرون أن قيام دولة وطنية ديمقراطية حديثة مشروط بتفكك البنى والعلاقات التقليدية ما قبل المدنية وما دون الوطنية، فهي في الأصل بنى علائقية ممانعة لارتباط الفرد بالدولة والنظام والقانون، أي أنها تعمل كسلطة بدائل تنتظم أفرادها بهويات جزئية وعلاقات أحادية تغدو وسيطة بين الفرد والدولة، وغالباً ما تمنع الفرد من الشعور بالحاجة إلى الدولة وإلى القانون، فيغدو وجود الدولة وعدمها سيان في نظر الفرد، أي أن الفرد ينسلك في البنى التقليدية متناسياً للدولة وسلطانها.
والأصل في المجتمعات المدنية أن علاقة الفرد بالدولة لا واسطة فيها لشيء غير القانون، والأفراد يرتبطون ببعضهم لا عن طريق البنى التقليدية المنغلقة ولكن عن طريق العمل وأدوات الانتاج. فنظام العلاقات في البنى التقليدية والهويات ما دون وطنية لا تحكمه المواطنة ولا يتحكم فيه الانتاج والكفاءة، وإنما يقوم على أسس تعصبية غير منتجة، فالهاشمية السياسية مرباط سلالي تعصبي، ونزعة تمييزية عرقية منغلقة، تشكل هوية تجزيئية محدودة بحدود ضيقة أدنى من الوجود الوطني، ودون المجتمع وهويته الجامعة، وهي مانع من موانع وجود دولة لمواطنة والقانون، إذ تفرض وجوب تقسيم المجتمع عنصرياً إلى سادة وافدون هم الحكام وأصحاب السلطة، وعبيد هم المواطنون أهل الأرض وأصحاب التاريخ وورثة المجد والحضارة، والطائفية في الأصل رباط ثقافي لجماعة ايديولوجية منغلقة، لا تسمح بالعيش مع غيرها، والايديولوجيا المتجاوزة للأوطان نهج أحادي لفريق سياسي غير واع بتاريخ بلده وهويته الأصيلة، وكل هذه الأشكال وجميعها لا يمكن أن تكون أسساً لوطن جامع يتعايش فيه كل أبناءه بمختلف مشاربهم.
وتتعقد المشكلة حينما ينبعث من هذه البنى التعصبية وما دون الوطنية، أطراً سياسيةً ذات تأثير في الشأن العام، إذ يصبح الصراع السلبي مغارة لا مناص من القفز في مستنقعها.
وتقوم المجتمعات المدنية في الأصل على شبكة علاقات وظيفية مهنية منتجة يتحكم فيها معيار الابداع والانتاج، في حين تعتمد البنى الاجتماعية التقليدية على عاملي الانغلاق والتعصب والتمييز واعتقاد الاستعلاء، فنسيج العلاقات بين أفرادها قائم على هذين الأسين فقط، وهي تفضي إلى ممانعة شديدة للاندماج والذوبان في النسيج العام للمجتمع، حيث تحتفظ الجماعات التقليدية ببنيتها بعيداً عن تأثيرات الحياة المدنية.
إننا حينما نتحدث عن إشكالية هذه البنى المنغلقة بمختلف مستوياتها وعائقيتها لفاعلية الدولة الوطنية لا نعني ضرورة إلغائها وإزالتها، فذلك منافٍ تماماً لطبيعة الاجتماع البشري، وإنما نقصد تفكيك قوة عصبويتها الممانعة لسلطة الدولة الوطنية، وقانون المواطنة المتساوية، والحقوق والواجبات، وذلك لن يتأتى إلا بانخراط الأفراد في بنى وعلاقات ذات أنساق حديثة منفتحة ومتطورة، مهنية ونقابية وحزبية...الخ. مع ضرورة أن يتخلوا كلياً عن روابطهم العصبوية التقليدية المسبقة، إثنية كانت أو مذهبية أو مناطقية، فهذه الروابط والأطر في الأصل لا تصلح أسساً للاجتماع الوطني والنشاط العام.
إننا في الحقيقة وبعد ثورات الربيع المأزومة عدنا لنشكوا من داءين عضالين يعصفان بواقعنا السياسي اليوم، هما داء البنى التقليدية بهويات ما دون وطنية، وداء الاستبداد ومصادرة الشعوب، فإما أن نفر من الاستبداد إلى حضن التقليدية والجمعات التعصبية فينتهي وجود الدولة الهشة، أو نقبل بالاستبداد سوطاً مصلتاً كيلا نفقد الدولة ولو كانت صورة مصمتة!
وهنا نتسائل هل بالإمكان أن تنشأ ديمقراطيات في مجتمعات تعصب تعج بالهويات الضيقة طائفية أو جهوية أو عصبوية تقليدية؟
للأسف الشديد لا نجد في ثقافتنا الراهنة مادة ساندة ومؤصلة لقضايا الاجتماع السياسي الوطني، كالمجتمع المدني والديمقراطية، ولعل هذا ما منح بعض التقليديات التعصبية والهويات التجزيئية القدرة على المزايدة بأحلام ومطالب الجماهير، فكيف يمكن لجماعات تعصبية وهويات دون مستوى الوطن والمواطنة أن تتبنى مبدأ الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، في الوقت الذي لا تزال تتعصب لإثنيتها وأعراقها ومذاهبها وايديولوجياتها، ولا تزال تؤمن بالملشنة نهجاً للسلطة والحكم والسياسة؟
"لقد تجلت الحداثة واقعاً في وحدة المجتمع المدني والدولة السياسية، أي الدولة الوطنية الحديثة، على نحو يستحيل معه قيام دولة ديمقراطية على أرضية تقليدية، أي على أرضية مجتمع منقسم على نفسه انقسامات عمودية، اثنيات وعشائر وأديان ومذاهب متحاجزة ومتفاصلة كالزيت والماء، وفي مناخ ثقافي وأخلاقي تقليدي هو نسق لتوليد الاستبداد، على الصعيدين السياسي والديني. فإذا كانت الديمقراطية حكم الشعب نفسه بنفسه، وفق التعريف البسيط المستمد من الدلالة اللغوية للمفهوم، فإن الشعب مفهوم سياسي يرمز إلى مواطنين أحرار ومواطنات حرائر بالطبع، لا إلى تقسيمات طوائفية واثنية وعشائرية، ذلك إن مفهوم الدولة الوطنية الحديثة تعني: شخصية اعتبارية ومعنوية، سياسية، وقانونية، وأخلاقية، فوق الطبقات والفئات، مبدؤها العام المواطنة والمساواة، وهي محايدة حياداً تاماً إزاء عقائد مواطنيها واختياراتهم، بخلاف السلطة ذات الطبيعة المزدوجة.
"وتتخطى الأيديولوجيات غالباً الحدود الوطنية للدول والمجتمعات، وتنتشر بالنقل التبشيري أو بالقوة المستعمرة، ومع انتشارها من دولة إلى أخرى تتجاوز خصوصيات المجتمعات، وقد تتناسب مع مجتمع في حين تتصادم مع آخر، ويبدو أن المجتمعات ذات التعدد الاجتماعي والثقافي لا تفيدها الايديولوجيات، بقدر ما توسع من دائرة الصراع والانقسام، فالشيوعية لم تكن عامل اندماج وتوحد في المنظومة السوفيتية، كما انها فسرت في بلدان متعددة بطرق مختلفة لتتلاءم مع البيئة المحلية.
وإذا كانت الايديولوجيات المتجاوزة والعابرة غير قابلة للتوطين لتغدو روحاً جمعية لشعب ما، فإن الخبرات الجماعية لشعب ما تشكل مجموعةً من التقاليد التاريخية، التي تغدو جزءًا من النسق العَقَدِي، المؤثر على مسار سياساته الداخلية والخارجية، وتدعم الأنساق العَقَدِية الموطنة الوَحدة الوطنية للدولة؛ وتُعَد من العوامل المهمة في تطور القومية والهُوية الوطنية المستقلة، وبالذات في الدول النامية، التي لا تمتلك هُوية راسخة بسبب انطماس ذاكرتها التاريخية، وهشاشة بناها المؤسسية؛ لذا عمد (نهرو) لتمجيد الإمبراطورية الهندوسية القديمة، وركز (موسوليني) على نجاح الإمبراطورية الرومانية، وعظم (ديجول) أمجاد فرنسا الماضية، في محاولة لبناء الشعور بالفخر والاعتزاز الوطني، وحاول عبد الناصر أن يسلك هذا المسلك الوطني باستدعاء الذاكرة المصرية القديمة.
والحق أن الأوطان ايديولوجيا قائمة بذاتها من خلال خبراتها التاريخية التراكمية التي استوعبت وجودها الجمعي، وهي ايديولوجيا قائمة على مبدأي الوطن كقيمة مقدسة والمواطنة كمنهج وسلوك وشبكة علاقات، ومنهما تتفرع منظومة القيم الاجتماعية الناظمة، وسيأتي الحديث عنها لاحقاً، غير أن البعض توهم قدرة الايديولوجيا المتجاوزة للأوطان على خلق وحدة عضوية بين المجتمعات والدول التي تؤمن بعقائد متماثلة، حتى صار بعضهم يطلق على مجموعة الدول الاشتراكية (العالم الشيوعي) ومجموعة الدول الرأسمالية (العالم الحر)، وهذا من قبيل الخيال والافتراض لا أكثر من ذلك، فليست الايديولوجيات بأكثر فاعلية من الرسالات السماوية، ورغم ذلك لم تعمل الرسالات السماوية على طمس هويات الشعوب والمجتمعات لصالح الوحدة العقدية التي جاءت بها الرسالات، بل أبقت على خصوصيات الشعوب والمجتمعات واكتفت بتوحيد الأسس النظرية للتصور السياسي والاجتماعي، وما حدث في التاريخ الاسلامي من خضوع لسلطة حاكمة واحدة لا يعني أنه مطلب الاسلام ولا تطبيقاً له، وإنما هو مجرد غلبة سياسية لسلطة قريش السياسية على ما سواها من مجتمعات الإسلام آنذاك، وقد فشلت الأيديولوجيات في معظم الأحوال في أن تكون قوة تماسُكٍ بين الدول، وقد وجد سوليفان - الذي قام بتصنيف عدة دول بناء على أيديولوجياتها المشتركة خلال الفترة 1815-1939م - أن التشابه الأيديولوجي لا يفسِّر استقرار الأحلاف.ايدلوجيا التوطين الثقافي والسياسي
علي البكالي
يكاد يجمع الباحثون والمفكرون أن قيام دولة وطنية ديمقراطية حديثة مشروط بتفكك البنى والعلاقات التقليدية ما قبل المدنية وما دون الوطنية، فهي في الأصل بنى علائقية ممانعة لارتباط الفرد بالدولة والنظام والقانون، أي أنها تعمل كسلطة بدائل تنتظم أفرادها بهويات جزئية وعلاقات أحادية تغدو وسيطة بين الفرد والدولة، وغالباً ما تمنع الفرد من الشعور بالحاجة إلى الدولة وإلى القانون، فيغدو وجود الدولة وعدمها سيان في نظر الفرد، أي أن الفرد ينسلك في البنى التقليدية متناسياً للدولة وسلطانها.
والأصل في المجتمعات المدنية أن علاقة الفرد بالدولة لا واسطة فيها لشيء غير القانون، والأفراد يرتبطون ببعضهم لا عن طريق البنى التقليدية المنغلقة ولكن عن طريق العمل وأدوات الانتاج. فنظام العلاقات في البنى التقليدية والهويات ما دون وطنية لا تحكمه المواطنة ولا يتحكم فيه الانتاج والكفاءة، وإنما يقوم على أسس تعصبية غير منتجة، فالهاشمية السياسية مرباط سلالي تعصبي، ونزعة تمييزية عرقية منغلقة، تشكل هوية تجزيئية محدودة بحدود ضيقة أدنى من الوجود الوطني، ودون المجتمع وهويته الجامعة، وهي مانع من موانع وجود دولة لمواطنة والقانون، إذ تفرض وجوب تقسيم المجتمع عنصرياً إلى سادة وافدون هم الحكام وأصحاب السلطة، وعبيد هم المواطنون أهل الأرض وأصحاب التاريخ وورثة المجد والحضارة، والطائفية في الأصل رباط ثقافي لجماعة ايديولوجية منغلقة، لا تسمح بالعيش مع غيرها، والايديولوجيا المتجاوزة للأوطان نهج أحادي لفريق سياسي غير واع بتاريخ بلده وهويته الأصيلة، وكل هذه الأشكال وجميعها لا يمكن أن تكون أسساً لوطن جامع يتعايش فيه كل أبناءه بمختلف مشاربهم.
وتتعقد المشكلة حينما ينبعث من هذه البنى التعصبية وما دون الوطنية، أطراً سياسيةً ذات تأثير في الشأن العام، إذ يصبح الصراع السلبي مغارة لا مناص من القفز في مستنقعها.
وتقوم المجتمعات المدنية في الأصل على شبكة علاقات وظيفية مهنية منتجة يتحكم فيها معيار الابداع والانتاج، في حين تعتمد البنى الاجتماعية التقليدية على عاملي الانغلاق والتعصب والتمييز واعتقاد الاستعلاء، فنسيج العلاقات بين أفرادها قائم على هذين الأسين فقط، وهي تفضي إلى ممانعة شديدة للاندماج والذوبان في النسيج العام للمجتمع، حيث تحتفظ الجماعات التقليدية ببنيتها بعيداً عن تأثيرات الحياة المدنية.
إننا حينما نتحدث عن إشكالية هذه البنى المنغلقة بمختلف مستوياتها وعائقيتها لفاعلية الدولة الوطنية لا نعني ضرورة إلغائها وإزالتها، فذلك منافٍ تماماً لطبيعة الاجتماع البشري، وإنما نقصد تفكيك قوة عصبويتها الممانعة لسلطة الدولة الوطنية، وقانون المواطنة المتساوية، والحقوق والواجبات، وذلك لن يتأتى إلا بانخراط الأفراد في بنى وعلاقات ذات أنساق حديثة منفتحة ومتطورة، مهنية ونقابية وحزبية...الخ. مع ضرورة أن يتخلوا كلياً عن روابطهم العصبوية التقليدية المسبقة، إثنية كانت أو مذهبية أو مناطقية، فهذه الروابط والأطر في الأصل لا تصلح أسساً للاجتماع الوطني والنشاط العام.
إننا في الحقيقة وبعد ثورات الربيع المأزومة عدنا لنشكوا من داءين عضالين يعصفان بواقعنا السياسي اليوم، هما داء البنى التقليدية بهويات ما دون وطنية، وداء الاستبداد ومصادرة الشعوب، فإما أن نفر من الاستبداد إلى حضن التقليدية والجمعات التعصبية فينتهي وجود الدولة الهشة، أو نقبل بالاستبداد سوطاً مصلتاً كيلا نفقد الدولة ولو كانت صورة مصمتة!
وهنا نتسائل هل بالإمكان أن تنشأ ديمقراطيات في مجتمعات تعصب تعج بالهويات الضيقة طائفية أو جهوية أو عصبوية تقليدية؟
للأسف الشديد لا نجد في ثقافتنا الراهنة مادة ساندة ومؤصلة لقضايا الاجتماع السياسي الوطني، كالمجتمع المدني والديمقراطية، ولعل هذا ما منح بعض التقليديات التعصبية والهويات التجزيئية القدرة على المزايدة بأحلام ومطالب الجماهير، فكيف يمكن لجماعات تعصبية وهويات دون مستوى الوطن والمواطنة أن تتبنى مبدأ الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، في الوقت الذي لا تزال تتعصب لإثنيتها وأعراقها ومذاهبها وايديولوجياتها، ولا تزال تؤمن بالملشنة نهجاً للسلطة والحكم والسياسة؟
"لقد تجلت الحداثة واقعاً في وحدة المجتمع المدني والدولة السياسية، أي الدولة الوطنية الحديثة، على نحو يستحيل معه قيام دولة ديمقراطية على أرضية تقليدية، أي على أرضية مجتمع منقسم على نفسه انقسامات عمودية، اثنيات وعشائر وأديان ومذاهب متحاجزة ومتفاصلة كالزيت والماء، وفي مناخ ثقافي وأخلاقي تقليدي هو نسق لتوليد الاستبداد، على الصعيدين السياسي والديني. فإذا كانت الديمقراطية حكم الشعب نفسه بنفسه، وفق التعريف البسيط المستمد من الدلالة اللغوية للمفهوم، فإن الشعب مفهوم سياسي يرمز إلى مواطنين أحرار ومواطنات حرائر بالطبع، لا إلى تقسيمات طوائفية واثنية وعشائرية، ذلك إن مفهوم الدولة الوطنية الحديثة تعني: شخصية اعتبارية ومعنوية، سياسية، وقانونية، وأخلاقية، فوق الطبقات والفئات، مبدؤها العام المواطنة والمساواة، وهي محايدة حياداً تاماً إزاء عقائد مواطنيها واختياراتهم، بخلاف السلطة ذات الطبيعة المزدوجة.
"وتتخطى الأيديولوجيات غالباً الحدود الوطنية للدول والمجتمعات، وتنتشر بالنقل التبشيري أو بالقوة المستعمرة، ومع انتشارها من دولة إلى أخرى تتجاوز خصوصيات المجتمعات، وقد تتناسب مع مجتمع في حين تتصادم مع آخر، ويبدو أن المجتمعات ذات التعدد الاجتماعي والثقافي لا تفيدها الايديولوجيات، بقدر ما توسع من دائرة الصراع والانقسام، فالشيوعية لم تكن عامل اندماج وتوحد في المنظومة السوفيتية، كما انها فسرت في بلدان متعددة بطرق مختلفة لتتلاءم مع البيئة المحلية.
وإذا كانت الايديولوجيات المتجاوزة والعابرة غير قابلة للتوطين لتغدو روحاً جمعية لشعب ما، فإن الخبرات الجماعية لشعب ما تشكل مجموعةً من التقاليد التاريخية، التي تغدو جزءًا من النسق العَقَدِي، المؤثر على مسار سياساته الداخلية والخارجية، وتدعم الأنساق العَقَدِية الموطنة الوَحدة الوطنية للدولة؛ وتُعَد من العوامل المهمة في تطور القومية والهُوية الوطنية المستقلة، وبالذات في الدول النامية، التي لا تمتلك هُوية راسخة بسبب انطماس ذاكرتها التاريخية، وهشاشة بناها المؤسسية؛ لذا عمد (نهرو) لتمجيد الإمبراطورية الهندوسية القديمة، وركز (موسوليني) على نجاح الإمبراطورية الرومانية، وعظم (ديجول) أمجاد فرنسا الماضية، في محاولة لبناء الشعور بالفخر والاعتزاز الوطني، وحاول عبد الناصر أن يسلك هذا المسلك الوطني باستدعاء الذاكرة المصرية القديمة.
والحق أن الأوطان ايديولوجيا قائمة بذاتها من خلال خبراتها التاريخية التراكمية التي استوعبت وجودها الجمعي، وهي ايديولوجيا قائمة على مبدأي الوطن كقيمة مقدسة والمواطنة كمنهج وسلوك وشبكة علاقات، ومنهما تتفرع منظومة القيم الاجتماعية الناظمة، وسيأتي الحديث عنها لاحقاً، غير أن البعض توهم قدرة الايديولوجيا المتجاوزة للأوطان على خلق وحدة عضوية بين المجتمعات والدول التي تؤمن بعقائد متماثلة، حتى صار بعضهم يطلق على مجموعة الدول الاشتراكية (العالم الشيوعي) ومجموعة الدول الرأسمالية (العالم الحر)، وهذا من قبيل الخيال والافتراض لا أكثر من ذلك، فليست الايديولوجيات بأكثر فاعلية من الرسالات السماوية، ورغم ذلك لم تعمل الرسالات السماوية على طمس هويات الشعوب والمجتمعات لصالح الوحدة العقدية التي جاءت بها الرسالات، بل أبقت على خصوصيات الشعوب والمجتمعات واكتفت بتوحيد الأسس النظرية للتصور السياسي والاجتماعي، وما حدث في التاريخ الاسلامي من خضوع لسلطة حاكمة واحدة لا يعني أنه مطلب الاسلام ولا تطبيقاً له، وإنما هو مجرد غلبة سياسية لسلطة قريش السياسية على ما سواها من مجتمعات الإسلام آنذاك، وقد فشلت الأيديولوجيات في معظم الأحوال في أن تكون قوة تماسُكٍ بين الدول، وقد وجد سوليفان - الذي قام بتصنيف عدة دول بناء على أيديولوجياتها المشتركة خلال الفترة 1815-1939م - أن التشابه الأيديولوجي لا يفسِّر استقرار الأحلاف.