لاتتحزبوا ولا تمارسوا الديمقراطية والحرية! نحن سنمارسها بدلاً عنكم، ولا تكتبوا في الشؤون العامة نحن سنكتب ونختصر لكم المسافات الفكرية والابداعية، ولا تفكروا بالتنظيمات الشعبية والنقابية والجمعيات والاتحادات والأحزاب نحن سنولي عليها "نُميس وحُرَّب" يمارسونها عنكم وينقلون لنا تفكيركم ويحصون لنا أنفاسكم. بهذه الطريقة بدت ساحة الجمهورية العربية اليمنية عقب الثورة وبدا الشعب فيها كالأيتام على مائدة اللئام، لقد تم تحريم الحزبية في دستور الجمهورية العربية اليمنية على الشعب الذي ثار من أجل الحرية والديمقراطية وممارسة سلطاته بنفسه؛ فقط استجابة لباعة المبادئ والدين وتماهياً مع رغبات الأنظمة الفردية المحيطة باليمن تحت ضغوط من القوى الكهنوتية المتخلفة، المتمثلة ببعض التيارات الدينية والقبلية وبقايا نظام الإمامة.
كل ما جرى أن تلك القوى تغلغلت داخل مفاصل الدولة ضلت العائق الصلب أمام ممارسة حقوق الشعب لحقوقه السياسية والاجتماعية والديموقراطية، وعادت اليوم باليمن إلى مربعه الأول مرحلة صراع ما بعد قيام ثورة 26 من سبتمبر المجيدة التي أقصيت على إثرها كل العقول الفاعلة، من ثوار مدنيين وعسكريين وعلماء ومفكرين ونشطاء سياسيين وأرباب مهن تجارية وعمل.
حصرت تلك القوى الشعب في جيوبها كي تسترزق به، وفي دفاترها كي تحرمهم الابداع والتفكير والتطور الثقافي والمعرفي، وفي كهنوتها كي تظل نظرية الحق الإلهي المقدسة للإمام أو الملك قائمة، والتي سقطت بفعل الثورات وتضحيات الشعب اليمني.
الصادم في الأمر هو حديثي مع أحد السلاليين الدارسين في الخارج في بداية الانتفاشة الحوثية حول مستقبل الحكم والحريات قال بالحرف لا داعي للأحزاب لا يوجد في الدول المجاورة وإيران أحزاب، بمعنى إعادة نظرية الحق الإلهي في الحكم وحصرها في سلالة معينة سيقومون بممارسة الحرية والديموقراطية بدلاً عن الشعب، الذي ما عليه إلا أن يزرع ويدفع ويحارب في صفوفها دون نقاشٍ أو حوار هذه طموحاتهم، تركو كل قيم الحضارة في البلدان التي ارتادوها واستنشقوا عبير الحرية فيها وراء ظهورهم، وعادوا إلى قمصانهم البالية وألوان وجوههم القبيحة، التي اختبأت زمناً وراء العلم الجمهوري والنشيد الوطني، وتغذت من خيرات الشعب ونعيم والجمهورية.
واستمراراً لمآسي الشعب اليمني وتغييب حقه من قبل بعض أبنائه عرقاً وديناً، تاريخاً وجغرافيةً، تم في مطلع ثمانينات القرن الماضي تأسيس "سوقاً شعبياً" عام على هيئة حزب ،كواجهة للديموقراطية أمام دول الغرب وتجميلاً لصورة صانعيه أمام الجماهير، التي طالبت بإطلاق الحريات وبكيانات عصرية نقابية وجماهيرية حديثة، تكون حاضنة لكل أبناء الوطن عابرة لكل الكيانات العتيقة، وتحل محل القبيلة التي شكلت عائقاً للتنمية وأجهضت مشروع بناء الدولة قديمه وحديثه، حتى أصبح -ذلك السوق - وكراً للقبيلة المتخلفة التي تقدس العصبية والطائفية وتدافع عن الفرد المنتمي لها قبلياً ولا تتعداه إلى غيره، والسلالة الهاشمية الحاقدة التي اتخذت منه وكراً للتخطيط لعودة الإمامة البائدة، والعسكرية منزوعة العقيدة القتالية والولاء الوطني وحب الوطن، وأفخاخ وشقوق لعملاء الخارج من كل اتجاه.
التحق به الكثير من الحزبيين الذين خدعوا بتأسيسه على أمل أنهم يجدوا بغيتهم التنظيمي السياسي الحقيقي الهادف إلى خدمة الوطن وبناء الدولة الحديثة؛ غير أنهم خدعوا، فمنهم من جارا واستمر، ومنهم من نكص على عقبيه يجر أذيال الخيبة والحزن.
كان للسوق عاقلاً غير عاقل، قَسَّمه إلى أرصفه ودكاكين وحلقات تجارية للبيع والاتجار في كل شيء حتى الممنوعات التي جعلوا من اليمن معبراً لها إلى باقي البلدان القريبة منها والبعيدة، فكان للعاقل عصاً طويله تحكم السوق وتطال كل آبقٍ أو متمردٍ فيه، جعل من والسوق والباعة فيه في نهاية المطاف منصات إعلامية ومجاميع تقاتل مع الكهنوت لخدمة مشروعه الامامي الراجع والمتدحرج من جبال شمال الشمال.
وعندما قُتل العاقل بعد أن أحاطت به خطيئته، انفض السوق تفكك كبناء دون أساس ومحتوى دون تخطيطٍ هندسي وتصميمٍ محكم، تشرذم لأنه سوق ٌبارت بضاعته وأفلس باعته وزبانيته، أما العصى التي كان يقمع بها كل معارض فقد انكسرت بيده فأوجعته وبها هلك.
لم يكن كل ذلك حقداً أو تهميشا مناطقيا أو حنقا حزبيا لأني أكره الحزبية، وأمقتها وأعتبرها قيداً فكرياً وإبداعياً يصادر العقول لصالح عقول أخرى، تشل تفكيرها في الشأن العام المتعلق بقضايا الوطن بكل شرائحه، طبقاته، توجهاته، وفئاته، بل ما تقدم كان تحيليلاً بسيطاً لواقعٍ مريرٍ امتدت جراحه وأنينه إلى الكل دون استثناء