يحال القادة وصناع القرار في البلدان الديموقراطية المتقدمة إلى مؤسسات استشارية استراتيجية؛ يتم الرجوع إليهم والاستفادة من ماضي خبرتهم لتخطي الصعاب والأخطاء التي خبروها، حتى لا تقع الشعوب فيها مرةً أخرى.
إلا أن جراحنا فاغرة فاها دون شفاء جراء الكوارث التي أحدثها قادة المعسكر السياسي اليمني القديم، ويطل علينا برأسه من حينٍ إلى آخر أحدهم من وراء ستار بعيونٍ ملؤها نجيع الاحتقان البصري، ووجوه شوهتها أحداث سياساتهم الحمقاء، عارضاً صلحاً هنا، أو مُقترِحاً مبادرة هناك لحقن الدماء في اليمن.
ولم تغير الأحداث شيئاً في رؤاهم الوطنية نضجاً وفكرا، فيأتي علي ناصر محمد في زحمة الأحداث ويعرض مبادرات وحلول لا ترقى إلى أن تكون حلاً بين رجلين من سكان الحي؛ أو حتى مقترحاً لمبادرة تحل معضلة بين ثلاثة، بعيدة كل البعد عن واقعنا المرير. وذلك بسبب إما بعده عن قراءة تاريخ الماضي المليء بالأحداث الدامية وكذلك الحاضر، أو تعاميه عنها عمداً خدمة لشخصه أو لغيره.
وعليه لن تصلح اليمن إلا بغيابهم عن المشهد اليمني اليوم، وترك اليمن لجيلها الناضج، ولو كان فيهم خيرًا يُذكر ما صارت اليمن بعدهم ساحة للصراع والحقد والاقتتال. برغم حياة الرئيس ناصر بعيداً في ربوع الشام الجميلة؛ إلا أنه لم يتحدث ولم تُهذب الأيام روءاه أو تنضج بُعد خياله في القراءة والاحتكاك والتحليل واستقراء ما بين السطور، لكي يتكلم فيسمع ويكتُب فيقرأ الناس له بإعجاب لما كتب.
ونجده ومن على شاكلته يرتدي عباءة الحوثية وإن اختلفت مسمياتهم يتهربون من التحدث للتاريخ عن أحداث أشعلوها وأسالوا دماء الأبرياء فيها. فيتهرب علي ناصر كقرينه علي سالم البيض الذي ظهر على أحد القنوات متحدثاً عن مآسي الجنوب، غير أنه رفض بشدة أن يتحدث عن أي تفصيل لأحداث 13 يناير 1986م وما قبلها وما بعدها هرباً من المنزلقات السياسية التي وقعوا فيها، وجنى ثمارها الشعب الذي لا زال يتجرع الناس بعض مآسيها اليوم على شواطئ عدن الجميلة.
خرج علي ناصر بمبادرة تعكس ظُلمةً في الرؤية وتيهٌ في المقترح، ألا يعلم الرجل الذي عاش معظم حياته رئيساً معاصراً للأحداث وشاهداً عليها أن مبادرته التي نشرتها أنباء عدن يوم الأحد 4 فبراير 2018م. فكانت مقترحات مبادرة خبير السياسة المخضرم علي ناصر على التي لا ترقى أن تكون صناعةً لحائك برد أو سائس قرد أو راكبٍ لأتان على النحو الآتي:
أولا: "توقف الحرب بين جميع الأطراف في اليمن والصلح على غرار ما حدث بين عبدالناصر والملك فيصل بشان ثورة 26 من سبتمبر في الخرطوم وقرارهم إنهاءها دون العودة إلى المتحاربين". ألا يعلم أن صلحهم ذاك ذهب أدراج الرياح بعد انسحاب قوات عبدالناصر من المشهد وانقلاب الملكيين عليه؟ وحصار صنعاء سبعين يوماً من قبل الملكيين لإسقاطها ولولا اللطف الإلهي وإخلاص من تبقى من شباب اليمن لهُزمت الجمهورية وعاد الكهنة والمشعوذين من الأئمة إلى سدة الحكم وعبثوا بشعبنا من جديد.
ألا يعلم الحاذق أن الثقة بالحوثيين منعدمة؟ لأنهم لم يحفظوا عهداً ولم يفوا بوعدٍ قطعوه منذ أن دخل يحي الرسي اليمن عام 284ه وأنهم لا ولن يعترفوا لأحدٍ بشراكة أو حق في الحكم والعيش في بلده بكرامة، ولن يسلِّموا ما آل إليهم من سلاح وعتاد وأن شعارهم إما نكون أو لا نكون نحكم أو نعبث ونقتل وندمر أو نموت.
وأن الشراكة السياسية والحزبية والديموقراطية وحقوق الانسان محرمة عندهم ومخالفة لدينهم وما يضمرونه أشد وأنكى، ولازالت الأحداث طرية في عدن وجارية في صنعاء وتعز والحديدة وباقي ساحات الحرب مشتعلة في ربوع اليمن حتى الساعة.
ثانيًا: يقترح علي ناصر: "البدء في حوار بين كافة المكونات السياسية للتوافق على اختيار شكل الدولة الفيدرالية، على أساس إقليمين أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب بحدود ما قبل 22 مايو 1990م كما ورد في مخرجات مؤتمر القاهرة". وذاك دليلٌ قطعيٌ أنه لازال هواه في التقسيم والتقزم والشرذَمَة قائم، متناسياً أنه كان أحد أسباب مجزرة يناير 1986م بين أطراف الصراع السياسية والعسكرية وكما أطلق عليها حينها النخبة والزمرة وأن بذورها لا زالت تُخصِبُ وتُنبتُ الاعتقالات والتعذيب والاعدامات الميدانية التي حدثت بين أطراف الصراع المستدامة في شوارع عدن في الأحداث القريبة حتى اليوم.
ومن ثم لا يمكنه العودة إلى ما قبل عام 1990م لا اليوم ولا غداً لان الظروف والوعي الجمعي للشعب اليمني تغير.. وإن إقليم حضرموت لم يعد في واديهم، وأبين وشبوة في واد والضالع ويافع وردفان في وادٍ آخر، ولا يمكنهم القبول بالشراكة البينية بينهم في ظل دولة مدنية مهما دارت الأرض وأشرقت الشمس وتعاقب الليل والنهار.
وكأن الرجل لا يعلم بأن القضية الجنوبية المتغنى بها من قِبل البعض لم يعد لها وجود، وأن الأمر قد صار بيد الجنوبيين أنفسهم من الرئيس اليمني الاتحادي هادي إلى رئيس الوزراء الحضرمي بن دغر سابقاً، إلى ثلثي الحكومة والسلك الدبلوماسي والأمني والمناطق العسكرية الجنوبية باتت بيد قادة جنوبيين، وأن حلم الجماهير التائهة المضلَلَة والمنهكة من زيف الشعارات السياسية ضاقت من الزيف وشيوع القتل والدمار اللامتناهي في الجنوب قبل الشمال.
ثالثاً: يقترح ناصر: "تشكيل لجنة دستورية لتنقيح الدستور ولجنة انتخابية لإجراء انتخابات عامة ونزيهة". ألا تعلم أيها الرئيس أنه قد تم صياغة الدستور وتنقيحه فرفضه الحوثيون وصالح "شريكي الانقلاب" لأنه تعارض مع هواهم التسلطي وإنكارهم لحق اليمنيين الشراكة في السلطة والثروة، وأنهما حصرٌ على الهاشمية السياسية وبقايا عساكرهم من كل كهف وشِعب، وأن الانتخابات محرمة في منهج حكمهم السياسي لأن الولاية في معتقدهم حصرياً تقع في قريش عموماً وفي سفاكي الدماء منهم على وجه الخصوص.
"يا سيادة الرئيس ناصر" إعلم أنه لم يعد للشعب اليمني من خيار إلا انتزاع حقه في السلطة والحكم انتزاعاً، لأن التاريخ يسطر بين جنباته "هوس الحوثيين" وجنون السلطة الذي يصيبهم هواها وأن الحقوق لا تُمنح أو تسلم طواعية دون قتل ودماء، بل تُنتزع. وأن الانفصال اليمني وشكل نظام الحكم صار بأيدي الغرب وصناع القرار في المنطقة، وأن كل شيء خرج من أيدي اليمنيين، لأن السفه والطيش والأطماع أضاعت كل شيء من أيدينا، وصار مصيرنا بأيدي الغير، وصار اليمنيون بحكم السفيه الذي لا يؤتمن على التصرف بميراثه وحقوقه ولا يُمكَّن من حقوقه وماله حتى يؤنس منه الرشد والرصانة والعقل