الدور التكاملي للسياسة الغربية يتكرر بنفسالأساليب والادوات مع تغيير في اللاعبين الأساسيينالذين يقومون بتنفيذ تلك الأدوار بمستوى عال منالاتقان والسرية. في نهاية سبعينات القرن الماضياحتضنت فرنسا الزعيم الديني الشيعي الإيرانيالمعارض اية الله خميني، برعاية واشراف منالمخابرات الفرنسية، التي لعبت دورا حاسما معالأجهزة المخابراتية للقوى الغربية الفاعلة في التمهيدللإطاحة بنظام الشاة محمد رضا بهلوي وتمكين ايةالله خميني من تأسيس الجمهورية الإسلاميةالإيرانية.
وبطريقة مماثلة فعلت المخابرات الألمانية فيمطلع الالفية الثالثة، اذ احتضنت المانيا المتمردالشيعي اليمني يحيى بدر الدين الحوثي، حيثوفرت له برلين الحماية الخاصة ومكنته من ممارسةنشاطه السياسي والإعلامي المعادي للحكومةاليمنية، وذلك كان بالتنسيق مع الأجهزة المخابراتيةالتابعة للجهات الدولية الفاعلة، التي عملت بشكلسري على الإطاحة بنظام الرئيس علي عبد اللهصالح، فضلا عن الإطاحة بالدولة اليمنية الحديثة عنطريق تمكين المليشيات الشيعية الحوثية منالاستيلاء على المؤسسات الحكومية المدنية والأمنيةوالعسكرية.
هذه المقالة تحاول دراسة السياسة الخارجيةالألمانية وعلاقتها بالحركة الحوثية الشيعية اليمنيةالمتمردة ومن ثم التركيز على أوجه التعاون الألمانيالإيراني بشكل عام وفيما يخص دعم وتمكينالمليشيات الحوثية بشكل خاص. تسعى هذه المقالةالى تحليل السلوك السياسي الألماني فيما يخصالمؤتمر الدولي بشأن اليمن، والذي نظمته وزارةالخارجية الألمانية بمقرها في برلين، حيث افتتحهوزير الخارجية الألماني هايكو ماس وحضره مبعوثالأمم المتحدة الخاص الى اليمن مارتن غريفيثسومنسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمنليز غراندي، اذ ناقش المؤتمر عملية السلام وافاقالاستقرار في اليمن من دون التنسيق والتشاور معالحكومة اليمنية، فضلا عن التجاهل المتعمد للتحالفالعربي المساند للحكومة اليمنية الشرعية. وعليه فان هذه المقالة ستتناول الموضوع وفقا للبناء المنهجي العلمي التالي:
أولا علاقة المانيا بالمليشيات الحوثية:
يبدو ان العلاقات الألمانية الحوثية متجذرة الىالحد الذي نستطيع فيه القول ان تلك العلاقاتتبلورت بشكل علني في البدايات الأولى لظهورالتمرد الحوثي عام 2004م، عندما وفرت برلينالحماية والدعم والرعاية الكاملة للمتمرد يحيى بدرالدين الحوثي وهو أخو الصريع حسين بدر الدينالحوثي، الذي قضى نحبة في الحرب الأولى عام2004م، حيث يعد هو المؤسس الأول للمليشياتالحوثية الشيعية الإيرانية. لم تكن المانيا مجرد دولةتمنح حق اللجوء لرجل ملاحق سياسيا كما هومتعارف عليه دوليا، وانما كانت المانيا دولة حاميةوداعمة لنشاط المتمرد يحيى بدر الدين الحوثي،حيث وفرت له البيئة المناسبة لممارسة نشاطه المعاديللحكومة اليمنية بطريقة تتنافى مع الأعراف والمواثيقالدولية.
اتخذ يحيى بدر الدين الحوثي من المانيا مقراملائما لممارسة نشاطه السياسي المعادي للحكومةاليمنية مستفيدا من الإمكانيات الهائلة التي وفرتهاله حكومة المانيا الاتحادية، حيث نقل نشاطهالمعارض من المستوى المحلي الى المستوى الدوليمن خلال الظهور في وسائل الاعلام العربية والدوليةوالحديث بشكل مبالغ فيه عن مظلومية جماعتهالشيعية، التي تمردت على الحكومة اليمنية وتنكرتللدستور والديمقراطية والتعددية السياسية. بهذهالطريقة قدمت جمهورية المانيا الاتحادية خدمة جليلةللمليشيات الحوثية الشيعية الراديكالية بنفسالطريقة التي قامت بها فرنسا عندما احتضنت زعيمالثورة الإسلامية الإيرانية اية الله خميني وقد مت لهكل اشكال الدعم المالي والإعلامي، حيث كانتالمخابرات الفرنسية تقوم بتسجيل الخطاباتالتحريضية ل اية الله خميني ومن ثم ارسالهاوتوزيعها في مختلف المدن والنواحي الإيرانية حتىتفجرت الثورة الإسلامية واطاحة بنظام الشاه،وحينها توجت فرنسا خدماتها للخميني بنقله منباريس الى طهران على متن طائرة خاصة.
كذلك فعلت المانيا مع الزعيم الحوثي المتمرديحيى بد الدين، حيث وفرت له برلين فرصة الظهورفي المحافل الدولية في محاولة لتبرير تمرد المليشياتالحوثية واضفاء طابع المشروعية عليها او منحهاصفة القضية العادلة من خلال تسويقها إعلامياوعلى المستوى الدولي بانها جماعة تعاني الكبتوالحرمان، لكن يحيى بدر الدين الحوثي لم يكن يجيدالحديث او فن الخطابة كما كان يفعل الخميني، مماجعل دوره محدودا للغاية، ومع ذلك فانه من غيرالمنطقي التبسيط من الدور الذي قام به يحيىالحوثي كما لا يمكن التقليل من الدور الذي لعبهالالمان في تدويل المليشيات الحوثية، التي استثمرتإقامة يحيى الحوثي لعدة سنوات، حيث سمح لهبالعودة الى اليمن عام 2013م ليتم استقباله فيصنعاء من قبل المليشيات الحوثية في موكب كبيراستعرض الحوثيين فيه قوتهم العسكرية.
ثانيا: علاقة المانيا بالنظام الإيراني:
من الناحية الاقتصادية تعد المانيا قوة أكبر منبريطانيا وفرنسا وروسيا، ورغم انها ليست عضو فيمجلس الامن الدولي، الا انها حاليا تتمتع بزعامةالاتحاد الأوربي، وهو قوة سياسية مؤثرة، حيثوصف وزير الخارجية الالماني السابق يوشكا فيشربلاده بانها تمثل درعا لإيران في مواجهة الولاياتالمتحدة الامريكية. كذلك يزعم الاديب الألمانيماتياس كونتزيل ان موقف المانيا بشأن الملف النوويالإيراني قد يكون أقرب الى الموقف الذي تتبناهروسيا والصين وليس الولايات المتحدة الامريكية.
من الواضح ان العلاقات الألمانية الإيرانية تتطوربشكل مضطرد خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة،ولا سيما فيما يتعلق بالتبادل التجاري وهو الجانبالأهم بالنسبة لطهران، التي تتعرض لعقوباتاقتصادية أمريكية، فحجم التبادل التجاري بينالمانيا وإيران يرتفع بنسبة 20 الى 30 % سنويا،حيث بلغ خمسة مليار يورو عام 2018م وفقا لخططغرفة التجارة في المانيا. وعلى الصعيد ذاته نشرتوزارة الخزانة الامريكية تقريرا مطولا عن استخدامإيران للشركات الألمانية لتهريب الأموال بطريقة غيرقانونية، حيث كشفت مجلة تايم الامريكية ان الحرسالثوري الإيراني يستخدم الشركات الألمانية لإخفاءاستثماراته في الحرب اليمنية وذلك من خلال دعمالمصارف اليمنية التي تمول المليشيات الحوثية عبرطباعة العملة اليمنية بمبالغ تقدر بمئات الملايين منالدولارات واستثمارها في تمويل المليشيات الحوثية،وعلى الرغم من الأدلة الامريكية الا ان المانيا ترفضطلب ادارة ترامب ادراج قوات الحوس الثوريالايرانية في قائمة المنظمات الإرهابية الدولية.
يبدو ان المانيا ماضية في انتهاج سياسةمغايرة للسياسة الامريكية فيما يخص التعامل معالملف النووي الإيراني، والاهم من ذلك هو ان المانياتجير معها سياسة الاتحاد الأوربي على اعتبار انهاالدولة الأكبر نفوذا داخل الاتحاد وبالتالي تستطيعالتأثير على صناع القرارات السياسية في دولالاتحاد الأوربي وهو ما بدا واضحا في موقفالاتحاد المتمسك بالاتفاق النووي الايراني، حيثوصفت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل انسحابالرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النوويبالخطأ الفادح والمثير للقلق، وأكدت ميركل انهاستواصل العمل بموجب الاتفاق وحثت ايران علىمواصلة الالتزام بنصوص الاتفاق وقالت ميركل انانسحاب ترامب لا يعني نهاية المطاف مشددة علىضرورة بقاء سريان الاتفاق واصفة ذلك بأنه افضلانجاز حققته الدبلوماسية الدولية في العصرالحديث.
ثالثا: مؤتمر السلام واجندة المانيا:
في السادس عشر من شهر يناير الماضيعقدت وزارة الخارجية الألمانية مؤتمر الحوارالاستراتيجي وعملية السلام والاستقرار في اليمنفي مقرها في العاصمة برلين. حضر المؤتمر المبعوثالخاص للأمين العام للأمم المتحدة الى اليمن مارتنغريفيثس ومنسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانيةليز غراندي. المريب في الامر ان المانيا تجاهلتالحكومة اليمنية الممثل الشرعي والوحيد للجمهوريةاليمنية، وهذا التجاهل يعد مخالفة صريحة للمواثيقالدولية وقرارات مجلس الامن الدولي.
الحكومة اليمنية من جانبها أصدرت بيانا أعلنتفيه تحفظها على مؤتمر الخارجية الألمانية كونهتجاوز الاليات والسياقات المتعارف عليها في الأممالمتحدة، واستغرب البيان من تصرفات الحكومةالألمانية وشدد على ضرورة التنسيق والتشاور معالحكومة اليمنية في اية مشاورات او مؤتمرات تخصاليمن خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي تتطلبدعم الأمم المتحدة والدول الصديقة والشقيقة للحكومةاليمنية لأداء واجبها في خدمة أبناء الشعب اليمني. وعليه فان الحكومة اليمنية ترفض رفضا قاطعا نتائجمؤتمر برلين جملة وتفصيلا.
من الواضح ان الحكومة الألمانية تعمدتاستبعاد الحكومة اليمنية من المشاركة في المؤتمررغم ان ذلك مخالف لميثاق الأمم المتحدة والقواعدالدبلوماسية الدولية المتعارف عليها، والسبب يعودالى طبيعة الاجندة التي تتبناها الحكومة الألمانيةفي ذلك المؤتمر، والتي هي بطبيعة الحال تخدمالمليشيات الحوثية الانقلابية فيما يتعلق بالترتيباتووضع الحلول والخطط لعملية السلام والامنوالاستقرار في اليمن في المرحلة القادمة. اناستدعاء مارتن غريفيثس وليز غراندي للمشاركة فيذلك المؤتمر مؤشر واضح على التواطؤ مع المليشياتالحوثية والانقلابية والتماهي والتنسيق مع الحكومةالإيرانية والدليل على ذلك هو حضور غريفيثسوغراندي اللذان يتبنيان مواقف منحازة لصالحالمليشيات الحوثية. اظهر غريفيثس منذ تعيينه مبعوثاللأمم المتحدة الى اليمن ميلا واضحا الى جانبالحوثيين تجلى ذلك في الزيارات المتكررة والمطلولةالى صنعاء للقاء قادة المليشيات الحوثية الانقلابية،ناهيك عن الإشادات التي يطلقها غريفيثس فيمؤتمراته الصحفية بالمليشيات الحوثية والتي تصلفي بعض الأحيان الى موقف الدفاع عن المليشيات. اما فيما يخص غراندي فهي الأخرى اشد تعصباوانحيازا من غريفيثس الى جانب المليشيات الحوثية. المواقف المستفزة لغراندي دفعت الحكومة اليمنية الىاصدار بيانات احتجاج وإدانة على تصرفاتها غيرالقانونية ومن أبرز تلك المواقف اقدام غراندي علىابرام اتفاق مع المليشيات الحوثية يقضي بتسييررحلات جوية لصالح المليشيات الانقلابية دونخضوعها للتفتيش والرقابة وفقا للقرار الدولي 2216،لكن تحرك التحالف العربي والحكومة اليمنية أبطلذلك الاتفاق السيء. وعلى العموم تحاول غرانديوغريفيثس مرارا وتكرارا إضفاء نوع من الشرعيةعلى المليشيات الحوثية الانقلابية المتمردة.
يبدو ان المانيا ومعها الأمم المتحدة يهدفون منخلال عقد مؤتمر الحوار الاستراتيجي وعملية السلاموالاستقرار في اليمن الى الخروج بتصورات عمايمكن فعله في إطار حلحلة الازمة اليمنية بعيدا عنانظار الحكومة اليمنية والتحالف العربي لدعمالشرعية في اليمن، كون تلك التصورات لا تروقللحكومة اليمنية والتحالف، لأنها تعطي نوعا منالشرعية للمليشيات الحوثية وتسحب البساط منتحت اقدام التحالف والحكومة اليمنية التي وصفهاتقرير لجنة الخبراء الدوليين في تقريرهم الأخير لعام2018م بأن سلطتها تنحسر وتتآكل على الأرض. انالمانيا تهدف من خلال ذلك المؤتمر الى الاعترافبسلطة المليشيات الحوثية على المناطق التي تسيطرعليها بقوة السلاح في إطار المفاوضات والنقاشاتالقادمة، الامر الذي يرجح فرضية ان المانيا عقدتذلك المؤتمر بعد سلسلة من الاتصالات والتفاهماتالسرية مع المليشيات الحوثية والسلطات الإيرانيةوهو ما يفسر الارتياح الغير معلن من جانب الحوثيينوالإيرانيين إزاء ذلك المؤتمر.
رابعا: السيناريوهات المحتملة بخصوص الازمةاليمنية:
كثيرة هي السيناريوهات المحتملة المتعلقةبحلحلة الازمة اليمنية لكن أبرز تلك السيناريوهاتهي التي يتم التحضير لها في الوقت الراهن، والتيترمي الى وقف الحرب في اليمن واستئناف العمليةالسياسية وتقسيم البلاد الى مناطق حكم ذاتي كماعبر وزير الدفاع الأمريكي، الذي اقر بأن الحوثيينسيحضون بواحدة من تلك المناطق. مخرجات الحوارالوطني قسمت اليمن الى ست مناطق حكم ذاتي،لكن ذلك التقسيم لقي معارضة شديدة من الجنوبيينوالحوثيين ومؤيدو الرئيس الراحل علي عبد اللهصالح. هناك من يطرح صيغة جديدة لمناطق الحكمالذاتي بحيث تكون ثلاث مناطق تتضمن الأولىالمحافظات الجنوبية الشرقية (المهرة – حضرموت – شبوة – سقطرة) والثانية المحافظات الجنوبية الغربية(عدن – ابين – لحج – الضالع) والثالثة تضمالمحافظات الشمالية التي كانت تسمى بالجمهوريةالعربية اليمنية (الشطر الشمالي) بحيث يعطى ذلكالجزء للحوثيين. لكن هذا التقسيم يفتقر للتوازن لاناغلبية سكان اليمن يتركزون في الإقليم الشماليبنسبة 70% فضلا عن ان غالبيتهم من المسلمينالسنة مما يجعل فكرة تسلميهم للحوثي امر غيرمقبول كونه شيعي الهوية والعقيدة. ان مخاطرالسيناريوهات المحتملة ليس فقط شرعنة الحوثيينوتقويض الحكومة الشرعية وانما أ الخطر الأكبريتمثل في ان المؤشرات تدل على ان الأمم المتحدةوالقوى الدولية ليست جادة في نزع سلاح المليشياتالحوثية، لان الغرب يعتبر ان من مصلحته وجود كيانشيعي قوي في اليمن على غرار حزب الله في لبنان.