الناس تنحاز للقضايا العادلة، والعدالة هي مفهوم تعني عدم الانحياز في محاكمة ضمائر الناس، في اختياراتهم ومواقفهم، في التعدي على حريتهم الفكرية والسياسية، تسقط عدالة الإنسان الذي لا يريد أن يسمع غير صوته، وأي صوت آخر يعتبره نعيق، لأن العدالة مفهوم أخلاقي يقوم على الحق والأخلاق، والعقلانية والقانون الذي يحكم إيقاع العلاقات والحياة، ومن يرفض الرأي الآخر والصوت الآخر هو عار من أخلاق العدالة ويميل للتطرف والغلو والظلم والجور بل يتطور لحد الإرهاب، وهذا ما يحدث اليوم في إفراغ قضيتنا في الجنوب من عدالتها، وإرهاب الآخر.
القضية ليست راية وشعاراً، بل هي قيم ومبادئ وأخلاقيات، لم تنهار الوحدة اليمنية كأمل لوحدة الامة إلا عندما حولها المتنفذون والمنافقون لراية وشعارات يرفعونها وهم ينتهكون قيمها ومبادئها، أفرغوها من عدالتها ونبلها وسموها، واليوم تنهار قضيتنا في الجنوب لنفس السبب، البعض يعتقد أنها راية وشعار، يرفعه في طقم عسكري وهو ينتهك حرمات الجنوب وكرامة الإنسان فيه وقيم وعدالة القضية، شعار يردده وهو يشتم ويلعن الآخرين ويصف حقهم في الرأي وحرية التعبير نعيق.
منذ 94م ونحن نحذّر من إفراغ القضية من قيمها وأخلاقياتها وإنسانيتها حتى لا تفقد عدالتها، وفي مدونتي أكثر من ألف مقال ركزت معظمها على أهمية عدالة القضية، نشرت في أكثر من صحيفة، ما وصلنا إليه اليوم من واقع الحال الرديء، هو طيش وتهور وتمادٍ في الإضرار بالقضية، والعبث فيها من قبل المتعصبين بجهل وتخلف، سب وشتم وتعزير بالآخر، بأسلوب المماحكة ومناجمة أطفال.. هم ثلة لا يمثلون الجنوب كله، لكنهم بصوت عالٍ، معظمهم مدسوس على القضية، وآخرون مهزومون في داخلهم، بينما للقضية حجج قانونية وأخلاقية كافية لمواجهة الحملات الإعلامية المعادية، حجج القضية في الترويج لعدالتها وكسب أكبر قدر من الناس، الكلام العقلاني والراقي والجميل جاذب، يعزز من جسور الثقة بقضيتنا، لكن ما حدث هو العكس.. قزموا من قضيتنا، حولوها لمناطقية مقيتة وعنصرية قذرة، وسلوكيات بعيدة كل البعد عن قيم ومبادئ القضية، نفروا كل مناصر لها، في أوج القضية الجنوبية كان عدد كبير من مثقفي وكتاب وأدباء الشمال يناصرون ويكتبون بشجاعة عن القضية الجنوبية.. راجعوا صحيفة الأيام وكتابات الدكتور/ عبدالملك المتوكل والدكتور/ عبد العزيز السقاف- رحمة الله عليهم- وآخرين، ثم بدأت القضية تأخذ منحى مناطقي منفر لكل مناصر و معني بالقضية اليوم من قبل تلك الثلة، حتى صار الانقسام حاداً أفقياً ورأسياً، ولازال المتعصبون يصفون النافرين بسبب معاملاتهم بالنعيق، إذا استمرو بغيهم هذا، سيبقون هم النعاقون في واقع يرفضهم.
كل يوم يمر ونحن نسمع أن الجنوب تحرر، وكلما تحرر كلما يزداد تعاسة واكتئاباً، الشعب المكتئب والتعيس، شعب لم يتمكن بعد من إفراغ ذاكراته من سلبيات الماضي، ولم يتمكن بعد من تحفيز ذاكرة إيجابية للتعامل مع الحاضر، للوصول لمستقبل آمن.
والسبب واضح أن من يدعون أنهم ممثلين للجنوب لم يكونوا في مستوى التحديات، أهم أصغر من حجم القضية، وأحقر من أن يرتقوا بها لمصاف القضايا الانسانية العادلة، والله يستر علينا من هكذا عقلية تسيء للقضية ولنفسها بجهل وتخلف وعصبية.
أحمد ناصر حميدان