المشهد المعاش اليوم في عدن يعكس حقيقة ما يحاك للبلد والجنوب، حاضراً ومستقبلاً، تردد شعارات استعادة الدولة وحق تقرير المصير، كحقوق مكفولة قانونياً ودستورياً، وبكفالة المواثيق الإنسانية في المنطقة والعالم.
وهناك فرق بين من يعيش الواقع، وبين مهاجر يتابع الأحداث من خلال منافذ غير صادقة ولا حيادية، فالواقع ينم عن شعور أن هذه الشعارات مجرد يافطة لمشاريع أخرى، يتضح معالمها في مشهد عدن اليوم كعاصمة للجنوب.
المشهد اليوم في عدن لا يسرّ، ولا يمكن أن يكون نتاج مخاض قضية الجنوب العادلة, كالمواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية، والنزاهة والسعادة والرخاء.
قضية انتفض لأجلها شعب في وجه اعتى نظام تسلطي إقصائي فاسد، رسّخ المناطقية والطائفية، وغذّى كل التناقضات الاجتماعية والسياسية، فكّك النسيج الاجتماعي والوطني وأوجد شروخاً تسللت- من خلالها- فيروسات أمراض اجتماعية، رعى لوبي الفساد والاحتكار ككائنات متطفلة، تمتص رحيق مقدرات الوطن، وتحرم المواطن حقه في الحياة ونعيم تلك المقدرات، مما جعل الوطن مزرعة خاصة للنافذين واللصوص والفاسدين، والمواطن محروماً يجول العالم مغترباً، باحثاً عن عمل واستقرار وسعادة وحياة كريمة.
وبتضافر الجهود والقوى الشريفة في هذه الأرض المباركة، جنوباً وشمالاً، اشتعلت ثورة عارمة أسقطت رأس النظام، ولم تسقط منظومته وثقافته الفاسدة والمتعفنة التي تتوزع بين كل فئات وتوجهات ومناطق الوطن، جنوباً وشمالاً، بل أبقت عليها، وتمكنت هذه المنظومة أن تخترق النخب لتحقنها بفكر وثقافة العفن، وعملت على تطييف الناس شمالاً وحصر تطلعاتها جنوباً بالمنطقة، لتنجو كمنظومة، تظل تنخر المجتمع والبلد من خلال هذا الحقن.
مع العلم أن 33 عاماً كانت كافية لتحضير مجتمع يتقبل الحقن، ونخب قابلة للترويج لهذا الحقن، وكان يرددها في خطاباته مرتجلاً، (خبزي والعجين، هولا هم صناعتي، تلاميذي), وفعلاً بعضهم تخرج من مدرسة عفاش ومن حضانته، وآخرون مصابون بدائه، محقونون بالكراهية والأحقاد والمناطقية والطائفية، ومشغولون بالبحث عن سبل واختيارات الانتقام، جعلوا من القضية الجنوبية قضية عداء مع كل ما هو شمالي، قضية ثأر، وأشعلوا الناس حماساً في هذا الاتجاه بتهور وطيش دون تفكير في خطورة هذا التوجه على عدالة و وطنية القضية.
انشغل الكثير بالماضي، وتاهوا عن الحاضر، مضيعين للمستقبل.
وهذا هو المشهد اليوم في عدن، التي كانت تحوي ساحاتها الثائرين والصادقين، وهب أبناؤها للدفاع عنها من الغزو بغيرة وطنية، ويحملون قضية عادلة ووطنية, جمعتهم الجبهات بكل أطيافهم وتوجهاتهم ومناطقهم وأعراقهم، عار أن يسأل أحدهم الآخر من أين أنت؟
اليوم صار هذا السؤال العار يردد في ساحة أفرغت من رجالها، والشرفاء تقطعت بهم السبل، شهداء عند ربهم يرزقون، شهداء لمعركة كرامة ومواطنة وعدل وحرية، أو جرحى معاقين مهملين لا يلتفت لهم أحد.. ساحة هجرها الكثير خارج وداخل البلد، عندما بدأ حكام اليوم الفرز، واغتيال ما يمكن اغتياله بأيادٍ آثمة، أو تغييب البعض في غياهب السجون السرية، أو طردهم نفياً لخارج البلد، وها هي الساحة اليوم بين أيديهم منشغلين في العبث بها بأريحية، بما كسبوا من مكانة وجاه ورفعة وقوة تدر عليهم بالمال والمصلحة، مستبسلين بالحفاظ على تلك المصالح، مقاتلين في جبهات السطو والنهب وتصفية الحسابات وتاركين جبهات القتال للرجال.
سيطرة لفرض أمر واقع على الآخرين، فصوله شاهدة ومعبرة عن مشروعهم وثقافته، سيطرة الطامع بالسلطة والثروة والهيمنة، لا دوام لها، وغيرهم كان أشطر.
واقع اليوم.. هو شتات الماضي، مجموعة من الدمى تحركها مصالح ونزعات وأيدولوجيات، وتصفيات وانتقامات، مجموعة من الأدوات التي تلعب أدواراً في سيناريو هزلي لصراع إقليمي دولي تحت مسميات عدة، وعلى رأسها محاربة الإرهاب.. سيناريو تديره دوائر احتكارية ورأسمالية واستخباراتية، تعيد ترتيب تقسيم المقسم وتمزيق الممزق، وتوزع الوهم وتسحر الأغبياء بصور ذهنية تغطي على حقيقة ما يدور، أدواتها معروفة، في هجماتها وردودها لدحض كل الحقائق التي تتكشف من على منابر وصفحات التواصل الاجتماعي.
متجاهلين حتمية أن اليمن عصيّ على كل تلك المؤامرات وسينتصر لمشروعه الوطني، الدولة الضامنة للمواطنة والحرية والعدالة، بإرادة أبنائه الشرفاء الغيورين على وحدة السيادة والإرادة لوطن يستوعب الجميع كشركاء مكرمين، لتكون أمة محترمة بين الأمم.
احمد ناصر حميدان