جبر الخواطر يا إصلاحنا الشاطر ( 1 )
بعد نشر مقالنا " المتفلتون من الإصلاح " , انقسم المتابعون السلبيون حوله قسمين . الأول من الصف الإصلاحي . والثاني من خارجه من الخصوم والمنافسين . أما القسم الأول فقد ظن محدودو الفهم وسطحيو التفكير أن ذلك يشخص حالة خاصة , ويفند معضلة محصورة , ويتعرض لقضية نادرة . فأقول لهؤلاء القلة .. إن تشخيص العلل وتوضيح مكامن الخلل ثلثا الطريق نحو التقويم والتصحيح , فعليكم بالتحلي بعمق التفكير وسعة الفهم , فليس كل نقد هدما وما كل شكوى جرما . التفلت أمر خطير , ينشأ صغيرا لعلة بسيطة تكمن في النفس نتيجة لتصرف غير متقبل من شخصية إصلاحية معتبرة , أو من آثار سماع متكرر من هنا وهناك حول موقف إصلاحي غير معلل .
. وهذا الصغير إن لم يتم البوح به وتداركه فإنه يكبر شيئا فشيئا , ويصل إلى النجوى الداخلية منتشرا كالنار في الهشيم . وما كتبت مقالي عن التفلت إلا بعد تواتر أحاديث مع عدد غير قليل من الإخوة في داخل الوطن والمهجر . وهو بحمد الله تفلت جسدي سطحي من انقطاع التواصل وعدم تبيين الشبهات وشرح المستجدات , وليس تفلتا قلبيا يخدش جذور الانتماء , ولا عقليا يمحو أصالة الفكر . وإن الأخ ينتقد من باب الحرص التام كي يظل الإصلاح دائما كما عهده صفاء ونقاء , وكما اقتنع به فكرا ومنهجا , وكي يظل رجاله في دعوتهم نبراسا للهدى , وفي سياستهم قادة متميزين متجردين . ومن أجل هذا مد يده معاهدا على الوفاء والصدق والحق , لا على التملق والمواربة والتدليس على أهله . ولذا على القادة الاهتمام والإنصات والإصغاء , ثم التواصل والتبيين والعلاج . فلا يعقل أن يسعوا إلى صون الجماعة من مخططات الاستئصال الخارجية , وحمايتها من مكر الأعداء المتربصين بها , دون عناية وتفقد مستمر لما يعتمل في الداخل من آفات وعلل , ودبيب نمل . ولهم أسرد من سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم ما حدث بعد النصر في يوم حنين , لقد حاز رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم الكثيرة أربعة وعشرين ألفا من الإبل وأربعين ألفا من الغنم وآلاف الأوقيات من الفضة , فوزعها كلَّها على المؤلفة قلوبهم ومسلمة الفتح , وأمَّا الأنصار فلم يعطهم منها شيئا فوجدوا عليه في نفوسهم وكثر منهم القيل والقال , فدخل عليه سعد بن عبادة , فقال يا رسول الله إن الأنصار قد وجدوا عليك في نفوسهم , لما صنعت . قال فأين أنت من ذلك يا سعد . قال ما أنا إلا من قومي . فطلب منه الرسول أن يجمعهم له , فجمعهم في حظيرة ليس فيها غيرهم , ثم وقف فيهم خطيبا : " يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم ! أوجدتم علي في لعلعة من الدنيا أعطيتها أقواما أتآلفهم بها للإسلام , ووكلتكم إلى إسلامكم . ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي ؟ ألم أجدكم متفرقين فآلف الله بينكم بي ؟ . فقالوا جميعا , لله ولرسوله المن والفضل . ثم قال يا معشر الأنصار ألا تجيبون ؟ فقالوا بم نجيب يا رسول الله . فقال أما إنكم لو شئتم لقلتم ولصدقتم , أتيتنا مكذبا فصدقناك وطريدا فآويناك ومخذولا فنصرناك وعائلا فآسيناك . يا معشر الأنصار ألا يرضيكم أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم , أما والله لولا الهجرة لكنت من الأنصار , ولو سلك الناس فجا لسلكت فج الأنصار . اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار . فبكوا حتى أخضلت لحاهم , وقالوا رضينا برسول الله حظا وقسما .
أليس هؤلاء هم بايع الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا معه يقاتلون حيث يأمرهم ؟ أليسوا هم الذين منحوه الوطن والدار , ووضعوا بين يديه أموالهم وأرواحهم ؟ قائلين بإخلاص , والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منَّا رجل واحد . أليسوا هم أبطال بدر وشهداء أحد ومغاوير الخندق وفاتحو مكة ؟ . بلى إنهم هم . فما لهم اليوم قد سرت بينهم مقالة نقد على تصرف رسول الله ؟ . إنها النفس البشرية التواقة لدحر ما لا تراه صائبا من سلوكيات وتصرفات قادتها , ورفض ما لا تجده مستساغا من مواقف وقرارات جماعتها . ثم دقق في موقف القيادي سعد بن معاذ ! وهو يؤكد موقفه مع قومه في نقدهم . لا مجال للتملق والوصولية والمداراة مع مسؤوله المباشر , بل وضوح وشفافية , وصريح مقال وصدق موقف . وتفكر حين جمعهم الرسول وليس معهم غيرهم . إنه الإحصاء والحصر للفئة المتصلة بالموضوع , لتوصيل رأيهم وبيان مقالهم بكل إجماع وحرية , دون تداخل لفظي ولا تدخل فعلي من غيرهم . ثم قف مع موقف القائد المربي المسؤول رسولنا صلى الله عليه وسلم , واستفد . هل أهمل الأمر وترك المقال يزداد وينتشر ؟ هل عنفهم ووبخهم , هل اتهمهم بالتمرد والمعصية , أو بالمرض التنظيمي والنتوء التربوي . لا , بأبي هو وأمي , بل سارع إلى جمعهم مبتدئا حديثه معهم بما له من فضل عليهم , ثم أردف ـ معترفا ـ بما لهم من فضل عليه , ومشجعا لهم ليقولوا في وجهه الحقائق , فهم كذلك لم يقصروا مع القيادة والجماعة في دعوة ولا نفير . وحينها شرح في هذا اللقاء الشفاف عوامل وأسباب تصرفه , ووضح في هذه المصارحة الأخوية عدم خلو الصف من ضعاف إيمان وأهل دنيا , والمرحلة تتطلب مواقف وقرارات قد لا يرضى عنها المخلصون , أهل الحمية , ولا يقتنع بها المتجردون , أهل الحماسة , وأكد لهم موقفه وموقف الجماعة كاملة منهم , وهو موقف مبني على الوفاء والحب والامتنان , وأساسه الصدق والثقة والإخلاص . فطابت النفوس واطمأنت القلوب , وزالت العلة , وزاد الصف ترابطا وقوة وفاعلية . فهلا جعل حكماء رجالنا , شعار " الرسول قدوتنا " , واقعا ملموسا , يفتت كل عائق بيننا , ويزيل كل حيرة عنا ؟!.
ـ يتبع ـ
أبو الحسنين محسن معيض