قادري أحمد حيدر
الإهداء:
إلى د. معين عبدالملك، أتمنى عليك ما دمت لم تجرؤ على الكلام، ولا على الفعل، حتى في قضية صرف الراتب، أن تبادر إلى إعلان استقالتك من هذا الموقع الذي بلا معنى، والذي لا يشبهك،وهذا أضعف الإيمان .. استمرار قبولك لهذا المنصب في هكذا سياسات وأوضاع،مرتهنة للأجنبي، وبدون صلاحيات سياسية فعلية، وصمت جبان على عبث البعض بالسيادة الوطنية، حتى القبول الضمني بتفكيك وتجزئة اليمن،إن كل ذلك لا يعني سوى تخليك عما تبقى لك من معنى، معين، ومن احترام لكرامة العلم والدرس الجامعي الذي كنته.. بقاؤك لزمن أطول في هذا الموقع يسقط شيئا عزيزاً من روحك، حتى لا تجد اسمك.
وكما قال شاعر اليمن الكبير/ عبدالله البردوني :
إذا انت ضيعت الذي أنت واجدٌ فهيهات أن تلقى الذي أنت فاقدُ
أرى الأيام لاتمكث على حالها، إن كنت تعلم.
الدولة: أرض وطنية، تاريخية (جغرافية محددة ومعلومة)، وشعب توحده وتؤطره هذه الأرض، وجيش، وأمن ونظام عام يحكم هذه الدولة.
وبتفكيكنا لهذه المفردات في ضوء الحالة اليمنية القائمة منذ خمس سنوات وأكثر فإن الأرض اليوم مصادرة، والسيادة واستقلال القرار السياسي الوطني منتهبان بيد أطراف داخلية وخارجية، جميعهم لا صلة لهم بالدولة، ولا بمشروع وجود الدولة، لأن شرط وجودهم (الميليشيات)، بني ليس على مصادرة الدولة بالقوة فحسب، بل على تدمير مؤسسات الدولة ونهبها، أما الشعب اليمني الواحد الموزع على جغرافية البلاد، فيجري تقسيمه وتجزئته إلى شمال وجنوب، وإلى"جنوب عربي"، و"يمن" ،وإلى سني/ وشيعي، (وزيدي، وشافعي، وإسماعيلي) أما الجيش فقد تحول من أول لحظة لبداية الانقلاب والحرب، وبالتدريج، إلى عدة جيوش ميليشوية موزعة على كل الجغرافيا اليمنية: من صنعاء إلى عدن، إلى تعز، إلى مأرب إلى أبين وشبوة، وحضرموت، إلى المخا إلى الساحل الغربي، حتى تحول بعضها إلى جيوش ارتزاقية من قبل البعض، في الحرب على الحدود مع السعودية مقابل أجر معلوم، وبعلم الجميع، بما فيها "الشرعية" وقيادات المكونات السياسية المستريحة في أبراجها العاجية.. أما النظام العام في حدوده الدنيا الذي كان قائماً فقد تحول إلى أنظمة عسكرية أمنية، تأمر وتحكم بإرادتها الخاصة نيابة عن الكفيل، ولا تخضع لسلطة الدستور ولا إلى أي قانون، موزعة على جميع الأرض اليمنية.
إنك- اليوم- لا تستطيع أن تتجاوز خمسين كيلو متراً دون أن تمر بخمس عشرة نقطة أمنية وعسكرية، لا تحتكم للقانون، ومناقضة للدستور،نقاط ميليشوية تتعرض فيها للإهانات والابتزاز النفسي والمالي، فما كان يستغرق ساعة زمن واحدة لتقطعه بالسيارة، يحتاج الآن منك إلى سبع وثماني ساعات. وهكذا في كل أرض الميليشيات، والتي حلت بديلاً عن الجيش والأمن، بل وعن الدولة.
وهذا الواقع السياسي والاجتماعي والعسكري والأمني يزداد اتساعاً، مع صباح كل يوم حتى وصل إلى إخراج محافظات يمنية كبرى وهامة، مثل سقطرى والمهرة، من خارطة الجغرافيا اليمنية، بعد أن وقعت كلية تحت قبضة الاحتلال الإماراتي السعودي، ولا أحد يعلم من مكونات مما يسمى "جهات الشرعية" شيئاً عما يحصل داخل هاتين المحافظتين. فهناك أقاويل وأخبار وتقارير صحافية محلية ودولية عديدة حول ذلك دون أن تسمع تصريحاً رسمياً من جهات ما يسمى "الشرعية"، أو قيادات الأحزاب السياسية، بعد أن حل الاحتلال الإماراتي السعودي بديلاً عنهم.
نقرأ ونشاهد عبر التلفزيونات حركة رفض ومقاومة مدنية وشعبية لما يحصل في محافظات سقطرى والمهرة وتعز وعدن، بما في ذلك تصريحات لقيادات رسمية محلية يجري قمعهم وتشريدهم ، ومنعهم من مزاولة أعمالهم في مناطقهم التي يمثلونها أمام الخارج، وأمام الداخل، وأمام الجهات الرسمية المسمى "شرعية"!!
إننا حقاً أمام واقع غرائبي فنتازي، يعجز الخيال الأسطوري عن تصوره إلا باعتبارنا نعيش في اليقظة واقعاً كابوسياً مفجعاً وكارثياً.
كانت على ظهورنا حدبة انقلاب صالح والحوثي، واليوم نعيش مرارة حدبات انقلابات عديدة، خارجية، وداخلية.
فكيف، إذن، بإمكاننا أن نستعيد
الدولة في واقع حال كهذا؟!!
والميليشيات تغطي وجه البلاد.
الدولة اليوم تغيب كلية،
و"الشرعية" تستبدل بالاحتلال والميليشيات، والسيادة الوطنية تنتهك، والقرار السياسي الوطني المستقل أصبح في خبر كان من أكثر من خمس سنوات، والاقتصاد إلى الاندثار قطعة،قطعة، وموانئ ومطارات البلاد تحت سيطرة ضباط أجانب، والملايين من موظفي الدولة الفقراء أو أكثر من 75% منهم لا يستلمون رواتبهم منذ حوالي خمس سنوات وأكثر.
ألسنا حقاً في أسوأ وضع غرائبي/ ولاإنساني، ليس على المستوى اليمني بل وعلى مستوى التاريخ السياسي العالمي كله؟!
إن حالة "الشرعية" في اليمن منعدمة ومعدومة على كافة الصعد.
ذلك أن أحد أوجه الدولة، والشرعية في أي مكان في العالم. هو الالتزام بدفع الراتب. ذلك لأن الراتب حياة، وأن صرفه لمستحقية هو عنوان وجود الدولة.
إن المضحك والمبكي والمخجل معاً، أن نجد أو نسمع البعض يتحسرون ويشكون من حكومة ووزراء لا وجود لهم على الأرض التي يمثلونها، ولا عاصمة وطنية لهم!! حكومة ووزراء ..إلخ تابعون للمندوب السامي، السعودي/ الإماراتي، حكومة ووزراء يعجزون عن صرف راتب من يمثلونهم ويحكمون باسمهم، وهم أكثر من 75% من موظفي الدولة الذين يعيشون ما دون خط الفقر، بينما هم يتقاضون رواتبهم بالدولار الأمريكي، والريال السعودي،والدرهم الإماراتي!!وبعضهم بالريال، الإيراني.
علماً أنه حتى من يستلمون رواتبهم في المناطق المسمى مجازاً "محررة" لا يستطيعون العيش بما تبقى من ذلك الراتب، بعد أن تراجعت قيمة الراتب( الريال اليمني)، النقدية، وهبطت قوته الشرائية إلى أقل من الثلث مع واقع هبوط سعر العملة المحلية، والإرتفاع الجنوني في حركة الأسعار في كل شيء.
سلطتان/ حكومتان، تحكمنا، أو بتعبير أدق تتحكمان بنا : واحدة مقيمة في عدن اسماً،وفي المنافي/ المهاجر، فعلياً،والأخرى مقيمة في العاصمة صنعاء تحت اشراف "المشرفين".. سلطتان حولتا اليمن إلى سجن كبير، وحولتا معه، ما تبقى من الطبقة الوسطى، عماد الإدارة، والدولة، إلى مجرد متسولين، هذا هو واقع حالنا مع هاتين السلطتين.
وفي ضوء ما سلف: هل نجرؤ، مجرد نجرؤ، على أن نسمي ما هو قائم لدينا "شرعية"أو " حكومة" أو دولة؟! أو أنها، هذه المسمى "شرعية" مجازاً مؤهلة وقادرة على استعادة الدولة؟
والسؤال المركزي الذي علينا أن نواجه أنفسنا به: هل يمكن أن توجد شرعية في بلاد لا يوجد فيها نظام سياسي مستقر, ولا حكومة فاعلة ومقررة، حكومة بدون مؤسسات دولة قائمة بالفعل؟!
هل سمعتم عن شرعية تسعى لاستعادة دولة، وتمارس تمييزاً وظيفياً وتمييزاً وطنياً في صرف الراتب لمن يقعون تحت مسؤوليتها، وتدعي أنها تمثلهم وتدافع عنهم، وهي في واقع الممارسة تحرمهم من حقهم القانوني والدستوري بالراتب؟!
وواقع الحال، أن هذا التمييز في صرف الراتب حاصل في صنعاء وعدن، فرئيس الجمهورية ومكتبه ومستشاروهم، في كل من صنعاء وعدن، وأعضاء حكومتيهما يستلمون رواتبهم مع الحوافز، إضافة إلى البترول، وكذا أعضاء مجلس النواب، والشورى ومديرو شركات النفط والغاز، والاتصالات والضرائب والجمارك، وموظفو البنوك، وشركة التبغ، وهيئة مكافحة الفساد، وجهاز الرقابة والمحاسبة، والعديد من القطاعات ، جميعهم يستلمون رواتبهم شهرياً في كل من صنعاء وعدن، وكل المحافظات الجنوبية،والشمالية المحسوبة مجازاً "محررة" !!.. بينما باقي فقراء اليمن، من موظفي الدولة: من المعلمين والأطباء، وأساتذة الجامعات، وغيرهم، يتجرعون مرارة الفقر والجوع حتى الموت، ولم نقرأ من قيادات الأحزاب بياناً احتجاجياً على ذلك، أو على الأقل مدافعاً عن حق الناس في الراتب كشرط أولي لممارسة السياسة!! لأن السياسة عندهم تعني مصالحهم المالية الخاصة.
إننا حقاً أمام "شرعية" خرافية هي إلى الفنتازيا أقرب .. شرعية بلا أرض، ومجردة من الدولة، بل، ولا مسكن تأوي إليه في أرضها!!
إن شرعيتنا اليمنية، هي ضمير مستتر (غائب) تقديره هو:
الاحتلال، والميليشيات .. ولا أعتقد أن المعاجم والقواميس قادرة على استغراق أو تحديد معنى ومفهوم "الشرعية" اليمينة القائمة.
إن ما نعيشه اليوم إنما هو واقع "تراجو/كوميدي" فقد فيه اليمنيون كل شيئ : السلطة والدولة، وبالنتيجة، السيادة، والاستقلال الوطني، فالدولة يصادرها يومياً الاستعمار الاحتلالي، الإماراتي/ السعودي الإيراني، وما تبقى من السلطة السياسية موزعة بين الميليشيات الانقلابية.. فعن أي "شرعية" إذن يتحدث البعض ؟!
ألم أقل إننا نعيش في واقع فنتازي هو إلى الأوهام وإلى الخرافة السياسية أقرب؟!
كم أتمنى لو أن لدينا هيئات مدنية، أو منظمات إدارية وقانونية (إحصائية) لقياس الرأي العام، لتقيس المدى السياسي والجماهيري – الرضا والقبول – الذي كانت عليه "الشرعية" اليمنية قبل خمس سنوات، وكيف هي بالأرقام اليوم؟ وكم تبقى من السبعة الملايين والنصف الذين صوتوا لصالح اسم عبدربه منصور هادي؟ وقياس الرأي العام هنا سيكون ليس على الأساس السياسي فقط، بل وفقاً لأرقام لها صلة بواقع تسليم رواتب موظفي الدولة ، وبحالة الصحة العامة، والتعليم، وبالحفاظ على سعر العملة الوطنية، وبالخدمات الأساسية، و(الأمن العام)، وبالوظائف المنجزة المضافة للعمالة القائمة، بعد أن أصبحت العمالة اليمنية كلها في حالة جمود وبطالة.
إن أهم مقياس لحساب الشرعية، إضافة إلى كل ما سبق الإشارة إليه، هو صرف الراتب لموظفي الدولة الفقراء. لأن الراتب وصرفه هو عنوان وجود الدولة. وبدون مجافاة للحقيقة، يمكن القول إن عدم صرف الراتب يكفي لنفي وإعدام أي صفة سياسية أو دستورية أو اخلاقية عن هذه المسمى "شرعية". أو عموماً، عن سلطتي الأمر الواقع في كل من صنعاء وعدن، علما أن هناك من الميليشيات من يسعى لتحويل المدينة "تعز" إلى سلطة ثالثة، أو رابعة، بعد سلطة "الانتقالي"، من خلال دويلة "معسكر المحور"، و"الحشد الشعبي"، وهذا مع الأسف ما يحدث في كل البلاد. فهل نبدأ بصرف الراتب كعنوان لوجود الدولة؟
خلاصة القول:
إن "التحالف" الذي اسُتقدمَ لاستعادة الدولة قد تحول فعلياً إلى قوة احتلالية كل همه الحفاظ على مصالحه غير المشروعة في بلادنا، ووضع اليمن واليمنيين، ومصالحهم في حالة من "توازن الضعف" .
وهنا تلتقي مصالح بعض أطراف الداخل "الوكلاء"، مع الخارج "الكفلاء"، ولا خيار أمامنا كيمنيين سوى استعادة وحدتنا السياسية، والوطنية، على طريق إنتاج كتلة سياسية اجتماعية وطنية تاريخية، تتحرك في اتجاه استعادة السيادة والاستقلال على طريق التحرير الكامل للبلاد، على قاعدة "مخرجات الحوار الوطني الشامل" بالعمل في اتجاه إقامة المدنية الاتحادية، من إقليمين.
لقد انتصرت "الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل"، وحققت الاستقلال الوطني،في 30نوفمبر 1967م، بعد حصارها سياسياً،وقطع الدعم المالي واللوجستي عنها، بعد رفضها "للدمج القسري"، في 13 ينايرً،1966م. كما أننا في شمال البلاد، انتصرنا بقوانا الذاتية، وبقواتنا العسكرية المحدودة، أمام كثافة الحشود العسكرية، للقوى الإمامية، والرجعبة العربية،والاستعمارية، وجحافل المرتزقة الأجانب من جميع اصقاع ارض الارتزاق.. انتصرنا في صورة" ملحمة السبعين" ، وبعد خروج القوات العربية المصرية، انتصرنا بقوانا اليمنية الذاتية، بعد أن قررنا الانتصار على ضعفنا، وامتلكنا حرية إرادتنا بأيدينا، بعد ست سنوات عجاف من الحرب الجمهورية/ الملكية الإمامية، تأكيدا من أن قوتنا في داخلنا، وليس في الخارج( الأجنبي) .. الدعم الخارجي عامل مساعد( ثانوي)، فالأصل في تماسك جبهتنا السياسية، والوطنية،والبداية، في امتلاكنا لقرارنا السياسي بأيدينا، ودون ذلك خرط قتاد، وستبقى دورات العنف والحرب تعصف بنا إلى ما لانهاية.
فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة صحيحة واحدة .
متى نبدأ تلك الخطوة، نكون بدأنا السير في الاتجاه الصحيح.. المهم أن نقلع عن عادة التبعية، والارتهان للخارج، تحت أي مسمى كان.
وعندها فقط، سيكون صرف الراتب نتيجة واقعية وسياسية لاستعادتنا قرارنا السياسي والوطني، وبالنتيجة استعادتنا للشرعية وللدولة.