. :
جاءته مضطرةً منهكةً ، تطلب منه خادمةً كي تساعدَها في أعمالها المنزليةِ ، فقد طحنت حتى مجلت يداها ، واستقت حتى أثَرتِ القربةُ في عنقِها ، وخبزت حتى تغيرَ وجهُها . فقال أبوها : ما جاء بك ؟ قالت : كي أُسَلِمَ عليك ، واستَحْيَت أن تسألَه . وتكرر الأمرُ ثانيةً ، وتشجعت في الثالثةِ برفقة زوجها ، فسألاه خادما ، فقال : واللهِ لا أعطيكما وأدع أهلَ الصُفةِ (الفقراء) تطوى بطونُهم لا أجدُ ما أنفقُ عليهم ، ولكني أبيعُ الرقيقَ وأنفق عليهم . ألا أدلكما على ما هو خير لكما ؟ إذا أخذتما مضاجعَكما ، فَسَبحَا ثَلاثا وَثَلاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاثا وَثَلاثِينَ وكَبرَا أربعا وَثَلاثِينَ ، فَهَو خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِم . الأبُ محمدٌ (عليه الصلاة والسلام) ، والزوجُ عليٌ والسائلةُ فاطمةُ (رضي اللهُ عنهما) . فاطمةُ الأحبُ إلى قلبه ، ولكنَّه يمنعُ عنها ما تحتاجه أشد الحاجة ، مما هو تحت يده من أصول الدولة وثرواتها .. انطلاقا من مسؤوليته نحو شَعبِه ، فَهُمْ أولى منها فيما ولاه اللهُ من المال والولاية والمتاع .
ويالهول ما أحدثَ الرعاةُ والمسؤولون والقادةُ فينا اليوم . في وطني ثلاثةُ رؤساء ، وخلفَ كلِ واحدٍ منهم يصطفُ قادةٌ ووزراء وموظفون وموالون وأقاربُ ومستشارون و... . وقد استغلوا وظائفَهم الحكومية ومواقعهم القيادية ، لتحقيقِ أطماعِهم وحاجةِ من ورائهم ، فَمَنَحوا -بغير استحقاق - قرابتَهم ورموزَ مكوناتِهم ومواليهم منحا دراسية ، ورُتَبا عسكرية ، ومناصبَ قيادية ، ومراكزَ حساسة ، وصلاحياتٍ واسعة ، و... . وكلُ ذلك من مالية الوطن ومال الشعب . وفيما بينهم وزعوا أموالَ الضرائبِ والواجبات وما لا حصر له من الإيرادات ، تملكوا ما لم يكونوا يحلمون به من قبل ، وبأطقم الدولة وجُندِها سَطَوا على الأرض والجبلِ ، ولقد طالَ جشعُهم مخصصَ الجرحى ومعاشَ الشهداءِ . اليومَ لدينا موظفون اكتسبوا خبرةً من سنين العمل الإداري ، وبقرار سياسي يُعيَنُ مَنْ لا خبرة له ليرأسَ الإدارة ، مقصيا كل خبرة تستحقُ المنصبَ . وفي الأمن والجيش ، وبعد أعوام من الانضباط ، يذهب الأجدرُ في دورات تأهيليةٍ فينالوا نجمةً واحدةً ، ويتدرجون سنينا للمرتبة الأعلى .. اليوم وفي أشهرٍ تجدُ أحدَهم وقد حازَ نسرين على كتفيه ، دون حاجةٍ للتأهل من أجل النجمةِ والنجمتين والثلاثِ ، ويتم تعيينُه قائدا لإدارة أمنيةٍ أو عسكريةٍ ، وفيها رجالٌ قد اجتهدوا عمليا وتدربوا تقنيا وتأهلوا علميا 20 عاما ، ورُتبةُ معظمِهم توقفت عند مساعدِ نظامٍ أو ملازمٍ ثانٍ . هذه ظاهرةٌ مستفحلةٌ في كل مسميات الحكم الثلاث عندنا . وأعجبُ ممن ينعقُ منهم " نريدُ دولةَ نظامٍ وقانون " ، ويداه تقطران فسادا . وممن يخطبُ " سنحقق العدل " وقلبُه مغمورٌ ظلما ، وممن يصرخُ "الحريةَ الحريةَ" وسجونُه مُلِئَت أحرارا . هذه هي حقيقتُهم ، ويجب أن يحاسبوا " أنَّى لكم هذا كله " ؟. وبأي حق منحتم من تحبون ما لا يستحقون ؟. وبأي حجة استغللتم سلطتَكم لِنَيلِ ما تطمعون ؟. فلا يكن عذرُكم أنَّكم كنتم للوضع تبعاً ولصناع القرار خدماً .. فلن ينفعَكم هذا ، فأنتم وهم يوم الحساب لموقوفون .
أبو الحسنين محسن معيض