"مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُك" . عبارةٌ أطلقها أَعْرَابِيٌ ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ ، غَنِمَ النَّبِيُّ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَهُ لَهُ ، وكانَتْ مهمَتُهُ في الغزوةِ حمايةَ ظُهورِ المقاتلين ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ ، فَقَال َ: مَا هَذَا ؟ ، قَالُوا : قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ ﷺ ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَيه ، مستفسرا " مَا هَذَا " ، قَالَ : قَسَمْتُهُ لَكَ ، قَال: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ- بِسَهْمٍ ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ ، فَقَال َ: إِنْ تَصْدُق اللَّهَ يَصْدُقكَ ، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ العَدُو ، فَأُتِيَ بِهِ يُحْمَلُ ، قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : أَهُوَ هُوَ ؟ ، قَالُوا : نَعَمْ ، قَال َ: صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ.
- قلتُ: هذا رجلٌ صَدَقَ اللهَ في المُنطَلقِ فصَدَقَه اللهُ في المَسيرِ . صدق في الإخلاصِ فوفقه اللهُ في المصيرِ . صَدَقَ في التجردِ فمنحه اللهُ كلَ خيرٍ . ما على هذا بايعتُك واتبعتُك ! .. هو اليوم لسانُ حالِ كثيرٍ من المخلصين في المكوناتِ والتجمعاتِ السياسيةِ والجماهيريةِ والوطنيةِ والدعويةِ . يصدعون بها قويةً شفافةً في وجوه قادتِهم ومسؤوليهم ، وهم يرون تحولا في منطلقِ فكرتِهم وغايةِ أهدافِهم ، يلمسون انحرافا عن الخطِ القويمِ الذي عرفوه ، نحو منعطفٍ ما عهدوا من سبقهم وطأه وخالطه . يرون مسارعةً ومسابقةً نحو الدنيا وكنوزِها ، ونحو الوظيفةِ وتعددِ رواتبِها ، والمناصبِ وزُخرُفِ رتبِها ، والمراكزِ ولمعانِ درجاتِها .. ليحلَ بذلك في قلوبهم التثاقلُ مَحلَ ( انفروا ) ، ويسكنَ نفوسَهم التكسبُ محل ( اتقوا ) ، والمداهنةُ محل ( واعتصموا ) ، والركونُ للظالمين ومخالطةُ فسادهم محل الاصطفاءِ ، والتبعيةُ محل الاستعصاءِ . وكأني بهم يقولون لقادتِهم ما على هذا بايعناكم ، ولا من أجل هذا اتبعناكم .. لقد أتينا لأجل نورِ الهدى وسراجِ التقى ، وصدقِ الشعارِ وسمو القضيةِ ، لننالَ بإخلاصنا علوَ الجنانِ ، ولنحققَ بتجردنا لشعبنا وأمتنا خيرَ معاشٍ وأكرمَ حياة ، في ظلِ عدلٍ ورحمةٍ وأمنٍ وسلامٍ وإخاءٍ ومساواةٍ . ما تبعناكم طمعا في مكسبٍ شخصي ولا منفعةٍ خاصةٍ ، ولا من أجل وجاهةٍ وثروةٍ . بايعناكم لصد الطغيانِ لا مداهنته ، ودحرِ الظلم لا مشاركته ، ونصرةِ الحق لا خذلانه ، وإنصافِ شعبنا المحروم لا زيادة قهره ومعاناته ، والثباتِ على سمو الفكرةِ لا التبرؤ منها ، والصبرِ في سبيل الرؤية لا التكسب بها . فلماذا سارعتم بالارتماء في حضنِ من لا يأمَنُ الوطنُ بوائقَهم ولا يَرقُبون في مواطنٍ إلاً ولا ذمةً . حتى بات أبناؤكم ومناصروكم في حيرة وذهولٍ ، فهم قد التحقوا بكم من أجل حريةِ وطنٍ وعزةِ مواطنٍ ، ولكنَّهم يرون الوطنَ - في حضرتكم - يُمتَهَنُ ، والمواطنَ يُهَانُ ، واتبعوكم من أجل جماعةٍ ورسالةٍ ، فإذا بالجماعةِ ينفَرِطُ عِقْدُها والرسالةِ يخبو بريقُها . وهم ما بايعوكم إلا صادقين مخلصين ، لما دندنتم به من شعاراتِ الوطنيةِ ، والبياناتِ الحماسيةِ بتحقيقِ آمالهم في كرامةٍ وخيريةٍ . فَهَلَّا صدقتموهم العملَ منطلقا وسيرا ؟ ، وبرهنتم لهم أنَّكم قادةُ وطنٍ لا مطايا بأبخسِ ثمنٍ . هلا أكدتم لهم أنَّكم جبالُ شموخٍ ومصداقيةٍ ، لا صلصالَ ذلةٍ وتبعيةٍ ، وأنَّكم أصحابُ القرارِ ، لا شلةَ كومبارس وراء كلِ ناعقٍ من الأشرارِ . وإن لم تفعلوا -ولن تفعلوا- ، فقد خَلَتْ سُنَةُ أمثالِكم من أفواج الخزي والعار .