بقلم: أحمد منصور
لم تتمكن إسرائيل من البقاء كسرطان في جسد الأمة الإسلامية طيلة ما يقرب من ثمانين عاماً إلا من خلال اعتمادها على ركائز أساسية من أهمها؛ الدعم الخارجي، والخيانة العربية، والردع العسكري.
فأما الدعم الخارجي فقد تكفل به صهاينة العالم والدول الغربية بدءاً من وعد بلفور المشئوم عام ١٩١٧ وحتى الآن. وأما الخيانات الداخلية من العرب حكومات وحكام فقد بدأت في حرب العام ١٩٤٨، وتُوجت باتفاقات التسوية أو ما يسمى اتفاقات السلام. ثم أصبحت عيانا بيانا بعلاقات مباشرة، ودعم ظاهر، ولم تعد بحاجة إلي الغوص في الملفات السرية أو الإطلاع على تقارير أجهزة المخابرات. وإنما أصبح كثير من القادة العرب يستمدون وجودهم وشرعيتهم من دعم إسرائيل لهم.
أما ركيزة الردع العسكري التي ظهرت في أول حرب خاضها العرب مع الإسرائيليين في حرب العام ١٩٤٨، والتي تمكن الصهاينة خلالها من اقتطاع نصف فلسطين وإقامة دولتهم عليها؛ فقد تآكلت بشكل كبير بعد الخيانة العربية التي أدت إلي هزيمة العام ١٩٦٧، وفرضت الوجود الإسرائيلي علي كل فلسطين، وأجزاء من مصر، وسوريا، والأردن.
كانت معركة الكرامة بداية لتآكل الردع العسكري الذي اعتمدت عليه إسرائيل في معاركها مع العرب، وتأكيدا علي هشاشة الجيش الإسرائيلي إذا وجد أمامه مقاتلين حقيقيين.
وكانت معركة الكرامة التي وقعت في ٢١ مارس عام ١٩٦٨ في بلدة الكرامة الأردنية -التي تقع علي حدود الأردن مع الضفة الغربية- بين فرقة من الجيش الأردني يقودها مشهور حديثة الجازي -الذي أصبح رئيسا للأركان بعد ذلك، وسجلت معه شهادته علي العصر في برنامجي التليفزيوني ” شاهد علي العصر “- والتي اشترك معه فيها فصائل من منظمة التحرير الفلسطينية واستمرت ١٥ ساعة فقط، وأدت إلى أول هزيمة عسكرية يتكبدها الأسرائيليون .
كانت معركة الكرامة بداية لتآكل الردع العسكري الذي اعتمدت عليه إسرائيل في معاركها مع العرب، وتأكيدا علي هشاشة الجيش الإسرائيلي إذا وجد أمامه مقاتلين حقيقيين رغم التباين الهائل بين الطرفين في التسليح العسكري.
ثم جاءت حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ وتحديدا الجزء الأول من الحرب وهي الفترة التي استمرت من ٦ أكتوبر حتى ١٣ أكتوبر، والتي التزم فيها الجيش المصري بالخطة التي وضعها رئيس الأركان آنذاك الفريق سعد الشاذلي، وحقق فيها انتصارا كاسحا علي الإسرائيليين، ثم تدخل السادات بعد ذلك في إدارة المعركة وفرض ما يسمي بتطوير الهجوم فحول النصر إلي هزيمة ومكن الإسرائيليين من الثغرة. ثم دخل معهم في اتفاقية تنازل عن سيادة مصر وكرامتها، يدفع العرب ثمنها إلى الآن. وقد تحدث الفريق سعد الدين الشاذلي عن تفاصيل ما حدث في شهادته معي علي العصر .
لقد كانت خطة الحرب التي وضعها الشاذلي ونفذها الجيش المصري من ٦ حتى ١٣ أكتوبر أكبر فشل لركيزة الردع العسكري الإسرائيلي. وأكدت علي هشاشة الجندي الإسرائيلي إذا دخل في معركة حقيقية مع مقاتلين عرب يقاتلون عن عقيدة وإيمان.
ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في ٦ يونيو عام ١٩٨٢ والذي زجت فيه إسرائيل بقوات أكبر من كل قواتها التي خاضت بها حرب أكتوبر ضد مصر وسوريا، ليعبر عن عجز إسرائيلي عسكري في خوض معركة طويلة. و رغم نجاح إسرائيل في طرد مقاتلي منظمة التحرير من لبنان إلا أنها أجبرت على الخروج، بعدما تكبدت خسائر فادحة، واعتمدت علي جيش من الخونة يقوده اللبناني سعد حداد؛ لحراسة حدودها بعد ذلك.
لكن العجز العسكري الإسرائيلي الحقيقي وفشل استراتيجية وركيزة الردع العسكري بدأ يظهر بشكل جلي بعد الانتفاضة الأولي التي اندلعت عام ١٩٨٧، ثم انتفاضة الأقصى في العام ٢٠٠٠، والتي أجبرت الإسرائيليين علي الإنسحاب من قطاع غزة عام ٢٠٠٥.
ثم كانت حرب العام ٢٠٠٦ على لبنان والتي تكبدت فيها إسرائيل خسائر فادحة. ورغم تدميرها جنوب لبنان، إلا أنها لم تستطع أن تصمد أكثر من ٣٣ يوما ثم قبلت بوقف إطلاق النار، وقد سجل عشرات الكُتّاب والمحللين الإسرائيليين تقييم لتلك الحرب الفاشلة في كتاب جمعه مركز الدراسات الفلسطينية تحت عنون : ” ٣٣ يوم حرب على لبنان “.
ثم فشلت إسرائيل بعد ذلك في حروبها التي خاضتها ضد قطاع غزة ، في أعوام ٢٠٠٨ ـ ٢٠٠٩ “معركة الفرقان أو الرصاص المصبوب”، ثم حرب نوفمبر عام ٢٠١٢ “حجارة السجيل أو عامود السحاب”، ثم “الجرف الصامد أو العصف المأكول” في شهر يوليو عام ٢٠١٤، ثم “صيحة الفجر” في نوفمبر عام ٢٠١٩، ثم “حارس الأسوار أو سيف القدس” في العام ٢٠٢١ و “الفجر الصادق أو وحدة الساحات” في أغسطس عام ٢٠٢٢، ثم “طوفان الأقصى أو السيوف الحديدية” التي اندلعت في ٧ أكتوبر، وأوشك شهرها الثامن على الإنتهاء دون أن تتمكن إسرئيل من تحقيق أي من أهداف الحرب.
ربما تكون هذه المعارك التاريخية التي تجاوزت حدود المكان إلى أركان العالم ولن تكتفي بإنهاء أسطورة الردع الإسرائيلي؛ بل ربما تنهي إسرائيل نفسها كمشروع استعماري استيطاني غربي
هذه المعارك قضت على أكبر ركيزة اعتمدت عليها إسرائيل في بقائها وهي الردع العسكري، لأسباب كثيرة من أهمها؛ أنها تقاتل بكل ما تملك من تفوق عسكري أمريكي غربي، مجموعات مسلحة تعيش في بقعة محاصرة منذ ما يقرب من عشرين عاما، لا تملك شيئا سوي الإيمان بقضيتها وحقها في مقاومة المحتل.
وربما تكون هذه المعارك التاريخية التي تجاوزت حدود المكان إلى أركان العالم ولن تكتفي بإنهاء أسطورة الردع الإسرائيلي؛ بل ربما تنهي إسرائيل نفسها كمشروع استعماري استيطاني غربي، وهذا ما جعل قادة إسرائيل ومن يدعموهم من الغربيين يُصرحون مرارا أن ما يجري هو معركة مصير ووجود لإسرائيل، وجعلهم يرضخون أخيرا لمطالب المقاومة ويُبدوُن الاستعداد للدخول في مفاوضات.
لم يعد هناك ردع إسرائيلي عسكري، وإنما عجز تام تصاحبه هيستريا التدمير الأعمي والمحارق الفظيعة، وكل ما يجري الآن هو محاولة للبقاء ومد أجل المشروع الصهيوني ولكن إلى حين.