رحلة السقوط في هاوية الخواء

2025/01/09 الساعة 02:12 صباحاً

رحلة السقوط في هاوية الخواء

صهيب المياحي: هنا عدن 


الخواء التام... هو ليس شعورًا عاديًا، وليس مجرد تجربة تمر بها كغيرها من التجارب التي يمر بها الإنسان. إنه هاوية سحيقة، ظاهرة وجودية لا يمكن وصفها بسهولة. أن تعيش في الخواء يعني أن تصبح غريبًا عن كل ما كان يومًا مألوفًا، أن تتلاشى الألوان من حياتك، أن تفقد الأشياء طعمها، وحتى أن تفقد نفسك. الخواء هو العدم الذي يتسلل خلسة إلى حياتك، يحتلها شيئًا فشيئًا، دون أن تدرك ذلك حتى تجد نفسك غارقًا فيه بالكامل.

في البداية، يبدو الأمر مريحًا. يخدعك الخواء بسلام زائف، كأنك أخيرًا قد تحررت من أثقال العالم، من ضجيج الحياة، ومن الصراعات اليومية. تشعر وكأنك قد دخلت في حالة من الاستراحة، استراحة من الألم، من الضغوط، من كل ما كان يرهقك. لكن، هذا السلام لا يدوم طويلاً. شيئًا فشيئًا، تتحول الراحة إلى عبء، والهدوء إلى عاصفة صامتة تدمر كل شيء بداخلك.

تكتشف أن الفراغ ليس هدوءًا حقيقيًا، بل هو نوع من السكون المرعب، صمت يكشف عن نفسه كصدى لكل ما فقدته. إنه ليس مجرد غياب للمشاعر، بل هو غياب للمعنى. يصبح كل شيء بلا قيمة. الطعام الذي كنت تستمتع به ذات يوم يفقد مذاقه، الأصوات التي كانت تثير فيك ذكريات عميقة تصبح بلا نغمة، الأماكن التي كنت تحب زيارتها تبدو الآن وكأنها مجرد مساحات فارغة لا تثير فيك أي انطباع.

ثم تأتي المرحلة الأصعب: عندما يصبح الزمن بطيئًا بشكل لا يطاق. تمر الأيام متثاقلة، كل لحظة تبدو وكأنها تمتد إلى الأبد. لم تعد تعرف الفرق بين الليل والنهار، بين يوم الاثنين والجمعة، بين الصيف والشتاء. يصبح الزمن مجرد سلسلة من اللحظات المكررة، كل واحدة منها تشبه الأخرى. إنه شعور بالعجز عن التمييز بين ما كان وما هو قائم، بين الحلم والواقع، وكأنك قد علقت في حلقة زمنية لا تنتهي.

في هذا الخواء، تبدأ الأشياء تفقد قدرتها على البقاء داخلك. تعبر المشاهد من خلالك دون أن تترك أي أثر. ترى الناس، تسمعهم يتحدثون، يضحكون، يغضبون، لكنك لا تشاركهم شيئًا. تصبح مثل شباك صيد قديمة وممزقة، تمر الأسماك من خلالها دون أن تُحتجز. يصبح وجودك نفسه أشبه بشبح يراقب العالم من خلف ستار رقيق، يرى كل شيء لكنه غير مرئي لأحد.

الأصعب في تجربة الخواء هو أنك تفقد علاقتك بنفسك. تصبح غريبًا عن قلبك وعقلك. ما من عاطفة تتحرك داخلك. لا فضول، لا تعاسة، لا غضب، لا بهجة. حتى الحزن، الذي كنت تهرب منه يومًا، يبدو الآن وكأنه ترف. تود لو تعتذر لنفسك على كل تلك المرات التي شكوت فيها من المشاعر الثقيلة، من الألم الذي كان يغمر قلبك. في الماضي، كنت على الأقل تشعر بشيء. الآن، حتى الألم غائب، والفراغ هو الحاكم الوحيد.

وفي هذا السكون المخيف، يبدأ العقل في التآمر ضدك. تختلج في رأسك أفكار غريبة ومخيفة، رغبة في كسر هذا الجمود بأي طريقة. يخطر لك أن تفعل شيئًا متطرفًا فقط لتتأكد أنك ما زلت موجودًا، أنك ما زلت قادرًا على الشعور. ربما تقفز من نافذة، أو تلقي بنفسك على سكة قطار، أو تغرس سكينًا في صدرك. ليس لأنك تريد الموت، بل لأنك تريد الشعور بشيء، أي شيء. يصبح الألم، ولو للحظة واحدة، أملًا غريبًا وسط هذه العدمية المطلقة.

الناس من حولك؟ كلهم غرباء. لا شيء مما يقولونه يعنيك. لا الحروب التي يدور الحديث عنها، ولا الاحتفالات، ولا المناسبات. العالم بأكمله يبدو وكأنه مسرح عبثي، مليء بالتفاهات. يوم المرأة؟ يوم الرجل؟ عيد الاستقلال؟ مرور مئة عام على حدث تاريخي؟ لا شيء من هذا يثير فيك أي اهتمام. كل ما كان مهمًا يومًا ما يصبح الآن بلا معنى.

حتى الأصدقاء القدامى، أولئك الذين كنت تشعر معهم يومًا بالألفة، يصبحون عبئًا. تتجنبهم، تفر منهم، وإذا صادفت أحدهم في طريقك تتظاهر بعدم رؤيته. لم تعد تملك شيئًا لتقوله، الكلمات نفسها أصبحت ثقيلة، فارغة من أي معنى. الحديث معهم يبدو وكأنه محاولة لاسترجاع حياة لم تعد تعيشها.

وتظل هناك، وحيدًا، غريبًا عن نفسك وعن العالم. الخواء يمتص كل شيء، يبتلعك بالكامل. تصبح كيانًا بلا ماضٍ ولا مستقبل، مجرد شبح يعيش في الحاضر، حاضر لا يحمل أي شيء سوى الفراغ. إنه ألم من نوع جديد، ألم غير واضح المعالم، لكنه دائم، عميق، ومخيف.

الخواء التام هو أسوأ ما يمكن أن يختبره الإنسان. إنه ليس فقط غيابًا للمشاعر، بل غيابًا للوجود نفسه. وفي أعماق هذا الفراغ، يصبح السؤال الوحيد الذي يطاردك: هل يمكن أن تعود يومًا للحياة؟

وفي عمق هذه الهوة المظلمة، ينبثق سؤال وجودي يحفر في داخلك: هل يمكن أن تعود الحياة مجددًا؟ وهل يمكن لروحك التي تشققت وتلاشت أن تستعيد بريقها القديم؟ لكن، حتى هذا السؤال نفسه يبدو وكأنه يفقد معناه تحت ثقل الخواء. تصبح فكرة العودة إلى الحياة ضربًا من الخيال، أشبه بمهمة مستحيلة في عالم لم يعد يعنيك بشيء، في جسد بات يشعر كأنه قشرة خاوية بلا مضمون.

تبدأ تدرك أن أكثر ما يخيفك ليس الفراغ ذاته، بل الاعتياد عليه. تدرك أنك أصبحت تستكين لهذا العدم، لهذا الغياب المتواصل للمعنى. الخواء يتحول إلى طبيعة ثانية، إلى رفيق دائم لا يفارقك. يصبح الوقت الذي كان يضغط على صدرك في البداية أقل وطأة، ليس لأن الألم خفّ، بل لأنك تعلمت أن تعيش معه. إنه نوع من الموت البطيء، موت الروح بينما الجسد ما زال يتحرك، يأكل، وينام، ويتفاعل مع العالم كآلة فقدت حساسيتها.

ومع ذلك، في مكان ما عميق في داخلك، هناك شعلة صغيرة تكاد تخبو. تلك الشعلة هي ما يجعلك تقاوم، حتى وإن كنت لا تدرك ذلك بوضوح. إنها بقايا الإنسان الذي كنت عليه، بقايا الأمل الذي ينبض بشكل خافت. ربما هو غريزة البقاء، ربما هو مجرد عادة، أو ربما شيء أكبر منك، شيء يذكرك أنك ما زلت موجودًا بطريقة ما.

في هذه المرحلة، تبدأ رحلة غريبة للبحث عن المعنى. ليس المعنى الكبير الذي تبحث عنه الفلسفات الكبرى أو العقائد العميقة، بل المعنى البسيط الذي يعيدك إلى الشعور بأنك حي. ربما تجد هذا المعنى في كتاب تقرأه دون اكتراث في البداية، ثم تجد نفسك مأخوذًا بجملة واحدة فيه. أو ربما تسمع أغنية قديمة تعيد إليك ذكرى نسيتها منذ زمن، فتشعر بشيء يتحرك داخلك للمرة الأولى منذ وقت طويل.

أحيانًا، يكون المعنى في لحظة صدفة: صوت طفل يضحك، غيمة تمر ببطء في السماء، أو حتى شجرة تقف صامدة وسط الرياح. هذه اللحظات الصغيرة تبدأ في شق طريقها إلى داخلك، تخترق جدار الخواء شيئًا فشيئًا. لكنها لا تأتي بسهولة، ولا تحمل وعودًا بالشفاء الفوري. إنها مجرد بذور، تحتاج إلى وقت طويل لتنمو، إلى صبر لا تعرف كيف تملكه، وإلى إرادة تستيقظ على مهل.

ومع مرور الوقت، تدرك أن الخروج من الخواء ليس رحلة سريعة، بل عملية بطيئة ومؤلمة. إنها معركة مع نفسك، مع الظل الذي أصبح جزءًا منك. تبدأ في إعادة بناء علاقتك بالعالم، خطوة خطوة، لحظة لحظة. تستعيد شعورك بالألم، ثم الحزن، ثم ربما البهجة. تدرك أن المشاعر، مهما كانت ثقيلة، هي جزء من كونك حيًا، وأنه لا معنى للحياة بدونها.

وفي النهاية، تبدأ في تقبل حقيقة بسيطة، لكنها عميقة: أن الخواء، على الرغم من قسوته، كان معلمًا صامتًا. لقد كشف لك هشاشتك، لكنه في نفس الوقت أظهر لك قوتك. جعلك تدرك أن الإنسان ليس مجرد مجموعة من المشاعر أو الإنجازات، بل هو كائن قادر على النهوض حتى من أعمق الهاويات.

وهكذا، شيئًا فشيئًا، تبدأ الحياة في العودة. ليس كما كانت، بل بشكل جديد. تصبح أكثر وعيًا بأهمية التفاصيل الصغيرة، أكثر تقديرًا لللحظات العادية، وأكثر شجاعة في مواجهة الألم. تدرك أن الخواء لم يكن نهاية الطريق، بل كان مرحلة في رحلة طويلة ومعقدة نحو الفهم، نحو المعنى، نحو الذات.