ما مرت به أبين خلال سنوات مضت أعطت انطباعاتٍ خاطئة عن هذه المحافظة الرائعة، حتى جعلوها والإرهاب وجهين لعُملة واحدة، وغدت في نظر البعض منطقة محرمة لا يمكن زيارتها فضلاً عن العيش فيها، وكل هذا مجرد أوهام وأغاليط ساهمت عوامل كثيرة في تكريسها في أذهان الكثيرين، من ناحيتي سأبيّن أهمية محافظة أبين ودورها كمحافظة رائدة وذات خصوصية حضارية كانت لها وستعود - إن شاء الله تعالى.
أبين تاريخٌ وحضارة!!
لأبين تاريخٌ موغلٌ في القدم والحضارة، حيث يقال إن أبانا آدم عليه السلام سكنها فيما كانت تسمى "عدن – أبين"، كما تقول كتب التاريخ، وخلفه من بعده ولداه هابيل وقابيل، وقد ذُكرت في كثير من أسفار التوراة، وأهلها أصحاب حضارة ومدنية منذ آلاف السنين.
وقد نقل الهمداني في "جزيرة العرب" عن القاضي المسعودي أن أهلها "أصح الناس مزاجاً وأطيب النواحي تربةً وماءً وهواءً، وناسها فيهم الهمة وأنفة النفوس".
لن نتوقف كثيراً عند تاريخ أبين الحافل، وسجلها الزاخر بالمنجزات، ومن أراد فبطون كتب التاريخ ستكفيه وزيادة. وليس همي هنا أن أسرد التاريخ، ولكني أريد أن أصل إلى نقطة مهمة غفل عنها الكثير، أو لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عنها، وهي أن محافظة أبين وخاصة حاضرتيها زنجبار وجعار، عرفت المجتمع المدني في أرقى صوره منذ القدم، وليس المقصود هنا بالمجتمع المدني المصطلح المعروف في علم السياسة، بل الخليط العجيب والمميز من السكان، من جميع مناطق اليمن سواء كان في فترة الاحتلال البريطاني في الجنوب أو فترة الإمامة في الشمال، وقد فتحت محافظة أبين أذرعها لكل قادم، حتى صهرتهم في بوتقتها، ولم تعد تستطيع التمييز بين أبناء المحافظة وضيوفها، فأصبحوا كلهم أبناء أبين فقط!! فتجد من أبناء أبين من تعود أصوله إلى حضرموت وشبوة وتعز وصنعاء وتهامة.. الخ.
في هذا الجانب، هناك قصة مختلقة ليس لها مستند تاريخي، يريد من ينشرها ويكررها تشويه صورة أبين، ويجعلها دليلاً على أن من سكن أبين فهو المنحوس دائماً والفقير أبداً، وخلاصة تلك القصة: أن رجلاً من تهامة سكن أبين قبل عشرات السنين، وعمل فيها بالتجارة، حتى أصبح من أثرياء المحافظة، ثم قرر بعد ذلك العودة إلى بلاده، وفي طريقه اعترضه في وادي بناء سيل عرمرم أخذ كل ماله وأهله، ولم ينجُ إلا هو!! فقال عبارة صارت مثلاً على ألسنة الناس "أبين بلاد الحاس والحسحاس والظلم الشديد .. الخ". والقصة رغم تهافتها، إلا أنه يمكن تفنيدها بكل سهولة، فالرجل جاء إلى أبين فقيراً معدماً، ثم أصبح من أثرياء المنطقة في تلك الفترة!! وهذا رد لكل من يقول إنها ليس مكاناً آمناً ومناسباً للاستقرار والتنمية. ويفسر البعض قصة الرجل التهامي بأنها تدخل في باب القضاء والقدر، وكل ما حدث له كان قدراً من الله تعالى وليس من المعقول تعميمه على كل من سكن المحافظة..
وفي الوقت الحاضر يشهد الواقع بذلك، حيث إن أشهر تجار المحافظة هم من البيوت التجارية المعروفة في اليمن، بل بعضهم من خارج المحافظة، ولحساسية الأمر هذه الأيام فلن نذكر أسماء رغم أن أبناء أبين يعرفونهم واحداً واحداً!
محافظة أبين والإرهاب:
هناك حقائق تتعلق بمسألة الإرهاب، ومنها أن قضية الإرهاب قضية عالمية لا تختص باليمن فضلاً عن محافظة أبين.
ومن الحقائق عن الإرهاب في اليمن أنه صناعة النظام السابق بامتياز، وليس معنى ذلك أنه لا وجود له، ولكن النظام السابق كان يستخدم ورقة الإرهاب بالكيفية التي يريدها وبالمكان والزمان اللذين يحددهما، وبذلك كان يضرب أكثر من عصفور بحجر الإرهاب.
بعد حرب صيف 94 المشئومة ظهرت جماعة جهادية في أبين وخاصة مدينة جعار بقيادة خالد عبد رب النبي، وكانت تلك الجماعة تهتم بنشر فكرها ولا تصطدم بالأجهزة الأمنية في المحافظة، ولم يكن النظام يضيّق عليها ويحدد حركتها، بسبب مشاركتها الفاعلة في هزيمة الشيوعيين المرتدين، كما كانوا يصفون المنتمين للحزب الاشتراكي في تلك الحرب!! وهكذا كانت تمضي الأمور، ولم يكن يتوقع أحدٌ أن مدينة جعار وهي المشهورة بحضريتها، ستتحول إلى مدينة تسيطر عليها القاعدة، ثم تتبعها أختها زنجبار في بداية عام 2011.
مسألة القاعدة والإرهاب في أبين – من وجهة نظري - مسألة لست معقّدة، ويمكن حلها بالحوار وبطريقة سهلة، حيث إن معظم المنتمين للقاعدة في أبين من أبناء المحافظة، ومسألة محاورتهم وإقناعهم، أو على أقل تقدير عقد هدنة مؤقتة معهم لمدة عام أو عامين، واردة وممكنة، حتى يلتفت الجميع للاهتمام بالمحافظة وتعويض مواطنيها عن كل ما حدث لهم خلال العامين السابقين، ويعرف أبناء أبين قبل غيرهم أن المسألة أكبر من جماعات جهادية سيطرت على المحافظة، بل إن رؤوس الفساد والذين أثروا ثراءً فاحشاً بسبب حرب أبين سيحاولون عرقلة كل الجهود الخيرة لحل هذه المشكلة، والتي يريدونها مزمنة وبلا علاجٍ ناجع، ولكن كل ذلك سيتحطم على صخرة إرادة الخيرين والشرفاء من أبناء المحافظة!
استقرار أبين يبدأ من أبنائها
أصابتني الدهشة وأنا أعدد في مخيلتي أبناء أبين المنتشرين في أصقاع الجمهورية، والذين يمكن وصفهم بأصحاب القرار، بداءً برئيس الجمهورية الوالد المناضل عبدربه منصور هادي -حفظه الله- ومسؤولي الدولة الكبار من وزراء وسفراء وقادة ألوية ومستشارين وأعضاء مجلس نواب ومحافظين ووكلاء ونخب ثقافية مؤثرة وشخصيات اجتماعية معتبرة، هل يعقل أن كل هؤلاء لا يستطيعون العمل على استقرار محافظتهم وتنميتها؟!!
معروف أن كل مجتمع لتحقيق التنمية فيه يحتاج إلى موردين أساسيين: مورد بشري ومورد مادي، وأبين والحمد لله لا ينقصها ذلك. فالمورد البشري الكفؤ يفيض وترسل منه للمحافظات الأخرى. والمورد المادي متوفر بكثرة، ولكن تغيب الخطط الجادة والمدروسة لاستغلاله.
فالثروة السمكية في أبين لو تم استغلالها بشكل جيّد لجعلتها في مقدّمة المحافظات اليمنية من حيث ارتفاع مستوى دخل أفرادها، ومثل ذلك بالنسبة للثروة الحيوانية والزراعية، والثروة المعدنية لم يتم التنقيب عنها، وقد سمعنا قبل سنوات أنه تم اكتشاف جبل مليء بمعدن الذهب في إحدى مناطق باتيس (غرب جعار 15 كم)، ولم نسمع عنه بعد ذلك.
الكرة الآن في ملعب المحافظ جمال العاقل، على اعتبار أنه الرجل الأول في المحافظة، ومطلوب منه عقد مؤتمر حوار مصغّر خاص بأبناء المحافظة في مدينة زنجبار، يتم فيه توجيه الدعوات لعقلاء المحافظة وكبرائها والشخصيات الاجتماعية والنخب الثقافية من جميع مناطق ومديريات المحافظة، ولا يستثني أحداً، وخاصة أبناء المديريات والمناطق النائية كـ "المحفد وجيشان وسرار ورصد وأحور والوضيع" لمناقشة أوضاع المحافظة بشمولية، يكون المحور الرئيس للقاء: كيف يمكن أن نحقق الاستقرار والتنمية للمحافظة بعيداً عن الفاسدين والمتسلقين والمطبلين الذين دمّروا وخربوا المحافظة في الأعوام السابقة؟ هذه الدعوة ستجد كثيراً من المعارضين إذا أصر المحافظ العاقل على تنفيذها؛ لأن هناك من لا يريد الخير لمحافظة أبين الصامدة، وهناك من سيرى أن زمنه قد ولّى بسبب إشراك جميع أبناء المحافظة في إدارتها ولو بفكرة بسيطة، ولكن سيكون هناك مردود إيجابي عظيم جداً لها، سيرى أثره في قادم الأيام لمحافظة كانت السباقة والرائدة في صناعة القادة، وهي تبحث الآن عمّن يداوي جراحها!!