لا شك أن الدعم السياسي والمالي الخارجي الذي لاقاه الانقلاب العسكري في مصر هو الذي يدفع قادة الانقلاب إلى الولوج في برك الدماء، ونشر أجواء القمع في كل أنحاء البلاد، والاستهتار بالقيم الإنسانية (ولا نقول: الإسلامية لأنها خارجة عن نطاق الخدمة عندهم). وصحيح أن الدول الغربية الكبرى عملت على إرسال إشارات من نوعية (التي واللتيا، والنحنحة، والتجشؤ بصوت عال) لإيهام العالم أن ذلك نوع من رفض الانقلاب وممارساته القمعية؛ إلا أن المؤكد أن ردود الأفعال الغربية مقارنة بسوابق ماثلة ( مثلاً موقفهم من تولي حماس السلطة بعد الانتخابات وحصارهم غزة فوراً) هي نوع من التأييد غير المباشر؛ وخاصة في الأسابيع الأولى للانقلاب والمجازر؛ يسمح للعسكر بإتمام خططهم لتصفية المعارضين والهيمنة على الوضع.. في الوقت الذي تظل فيه الدوائر الغربية تمارس الاختلاف المشروع حول نوعية ما حدث: انقلاب أم ثورة شعبية.. وهل يستحق الأمر فرض عقوبات أم لا؟ وإذا كان الأمر يستحق فهل تكون عقوبات اقتصادية أو عسكرية أم سينمائية أو حتى رياضية؟ وبعد مرور قرابة 7 أسابيع فهلال الحقيقة لم يطهر بعد، وثبت أن الغرب يرفض استخدام الوسائل العلمية فائقة الدقة لتحديد موقفه مفضلاً الاعتماد على الرؤية بالعين مما يسمح بحدوث اختلافات عديدة واجتهادات كثيرة كما يحدث عند استطلاع هلال رمضان والعيد في البلاد الإسلامية! حتى أنباء قطع المساعدات العسكرية هي نوع من الغلاسة والكوميديا؛ فهل مصر في حاجة ماسة لدبابات وطائرات وصواريخ؟ أو أن مخازنها صارت فارغة ووقف السلاح سيجعل مصر تنهار أمام الإخوان؟ وفي كل الأحوال؛ فما الذي سيخسره العسكر لو تم وقف المساعدات العسكرية؟
العرب الذين حسموا موقفهم المؤيد للانقلاب العسكري اتبعوا اللمس المباشر في تحديد طبيعة ما حدث، فقد آمنوا منذ اللحظة الأولى وبمجرد اللمس والسمع أنه الحق المبين الذي ليس بعده إلا الضياع.. هذا طبعا دون إنكار دور بعضهم الذي أسهم في صناعة هلال الانقلاب وعمل على توليده حتى أنه كان القابلة ومن ثم الكفيل له!
اليهود هم الأكثر احتراماً لأنفسهم من بين كل المؤيدين الصرحاء أو أولئك الذين لم تستقر بشاشة الإيمان بالانقلاب في صدوهم بعد، ويقومون بدور الحائرين حول أوصاف البقرة المراد ذبحها.. فهم أسعد الناس بالانقلاب مثلهم في ذلك؛ مثل بقايا الأنظمة السابقة ومثل المؤتمريين في اليمن؛ وهم أيضا لا يمغمغون في مواقفهم فيقولون مثلاً إنهم يفعلون ذلك لمصلحة مصر ولضمان أن تصير دولة قوية وناجحة، أو يقولون إنهم يفعلون ذلك حباً في الوسطية والاعتدال!
خلاصة الكلام.. استمرار همجية العسكر في مصر يتم وفق اتفاق مسبق مضمونه (افعل ما بدا لك.. إحنا حماتك).. ويعلم العالم كله أن الغرب لو أراد إيقافاً فورياً للمجازر وإنهاء الانقلاب لفعل ذلك بدون تفويض على.. الطريقة المصرية، ولكانت تكفي غمزة عين لؤمن العسكر أن الديمقراطية حق.. ودعونا من العنتريات التي يعلنها المغفلون التاريخيون عن ارتفاع مكانة مصر وازدياد منسوب العزة القومية بسبب رفض العسكر للتوبيخات الغربية ورفضهم التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية مثل أيام زمااااان.. دعونا من كل ذلك.. ألم يشتك قائد الانفلاب لطوب الأرض أن أوباما مش معبره حتى باتصال تليفوني واحد؟!
الجانب الإيجابي في هذه المسألة أن سلطة الانقلاب في مصر سقطت في مصيدة العنف، وتلوثت أيادي القادة بدماء المصريين جهاراً نهاراً وعلى الهواء مباشرة.. ومهما طال الزمن، وحتى لو تمكن الدعم العربي- اليهودي المشترك من تأخير يوم العقاب الكبير فلن يفلت الجميع، ويومها سيقال لهم أو سيسمعون عبارة إبليس المأثورة:
إنا أبرياء منكم.. إنا نخاف منظمة العفو الدولية ومحكمة الجنايات الدولية!
•••
عندما بشر مسؤول في الداخلية المصرية المصريين بأخبار سارة خلال الـ 48 ساعة التالية؛ سألني زميل: هل تتوقع أن يتراجع العسكر أو يستقيل السيسي؟ فقلت له: لا هذا ولا ذاك.. سيعلنون أنهم قبضوا على قيادات إخوانية بارزة قد يكون منها المرشد العام.. ولم ينتظر العسكر حتى نهاية الأربع والعشرين ساعة الأولى حتى أعلنوا خبر القبض على المرشد.. وقدموا الأمر في الإعلام وكأنهم اجترحوا معجزة عسكرية أو حققوا اكتشافاً علمياً عالمياً.. لكن الهيصة الإعلامية كانت ضرورية لإرواء غليل الإعلام المصري المفتري (أسهم خبراء نازيون من مخلفات الدولة الهتلرية جلبتهم المساعدات الأمريكية في إنشاء الإعلام المصري الحديث!).. وبالمرة يتم التغطية على فضيحة قتل المعتقلين المرحّلين إلى سجن أبو زعبل، وربما صرف الانتباه عن تدقيق حقيقة ما حدث في جريمة قتل المجندين المصريين الذين غدر بهم في ظروف غامضة ليس أقلها أن الداخلية المصرية تعلن أنهم خالفوا التعليمات وسافروا بوسائل نقل مدنية.. إلخ الأكاذيب التي إن ظهرت فسيعرف العالم مدى الإجرام الذي يحدث في مصر!
•••
إحدى مفتريات الإعلام المؤيد للانقلاب أن مصر رفضت حكم الإخوان لأنها لا تقبل أن يسيطر عليها فصيل واحد!
لنأخذ فقط الستين السنة الأخيرة من التاريخ المصري.. ولننظر: هل حكم مصر إلا فصيل واحد بأشكال وألوان متقاربة.. فمثلاً؛ هل كان عهد مبارك الأطول زمناً تحالفاً سياسياً أو ائتلافاً جامعاً للقوى المصرية السياسية والدينية والاجتماعية؟ حتى القوى السياسية الأقرب إليه منهجاً وسلوكاً عانت من الإقصاء مثل حزب الوفد حتى انحازت للمعارضة الشعبية ضده.. وفي نهاية حكمه عمل مبارك عمل توريث السلطة لابنه جمال، والاقتصاد المصري لابنه علاء وشركائه، ووضع الثقافة تحت إدارة زوجته.. وهو اكتفى بذلك ليس قناعة وتعففاً وإنما لأن الله –رحمة بالمصريين- لم يجعل أسرة مبارك من ذوات العدد الكبير، وصرفه عن فهم الحديث النبوي: "تناسلوا تكاثروا".. وهو أمر لا شك ندم عليه مبارك عندما لم يجد أبناء له يملكهم مصر وأنهارها وأرضها وجيشها!