لقد مرت على اليمنيون ظروفا صعبة لاشك منذ منتصف القرن الماضي بعد حادثة اغتيال الإمام يحي حميد الدين ، وأحدثت زلزال حينها وتوالت الأحداث بعد ثورة سبتمبر 1962 م وما رافقها من تجاذبات إقليمية ودولية وغدت اليمن رأس حربة لصراع إقليمي دولي أبان الحرب الباردة وكان حصار صنعاء في سبعينيات القرن الماضي إحدى المحطات الحاسمة وفي عهد الوحدة التي أعلنت في مطلع التسعينيات كان المؤمل ان تكون عامل استقرار للشعب اليمني وجيرانه والمنطقة عموما ، لكن نوايا من شارك فيها كانت تنطلق من نزعات إقصائية أنانية لكلا الشريكين ومن ثم أعلن الحرب على شركاء الوحدة وتوجت بأحلام الزعامة الزائفة والاتجاه للتوريث والحكم المطلق دون الاعتبار للدستور والقيم والدولة المدنية والديمقراطية التي أعلنت على أساسها تلك الوحدة ، ناهيك عن حروبا أخرى شنها النظام السابق على ما يسمون (بالحوثيين) وبغض النظر عن اتجاهاتهم ورؤيتهم إلا انه كان بالإمكان احتواء تلك الخلافات وتجاوز تلك الحروب الست العبثية ، وحين لاحت بشائر رياح التغيير في المنطقة العربية كانت ثورة تونس ومصر الشرارة التي أوقدت الحس الثوري لدى الشعب اليمني فاندلعت ثورة عارمة سبقها بسنوات حراك جنوبي كان يحمل شعارات بسيطة ومتواضعة ، ولكن ما ان أطيح برأس النظام البائد الذي استبد باليمن ثلث قرن وحان الأوان لكل اليمنيون الاتجاه لدولة مدنية من خلال ترتيبات الفترة الانتقالية حتى تعالت شعارات الانفصال لدى بعض الاتجاهات الحراكية في الجنوب ، وكان مؤتمر الحوار فرصة لالتقاء اليمنيون على كلمة سواء وكانت القضية الجنوبية مجرد شوكة في خصر اليمنيون ، فطالما كان الوصول لطاولة الحوار تحت سقف الوحدة فلا ينبغي مجرد التفكير بفكرة الانفصال أصلا ، ومن هنا يبدو أن اليمنيون في اتجاه البحث عن صيغة توافقيه لأحد أشكال الفدرالية المؤملة لشكل دولتهم في المستقبل ولازال الجدل متواصل حول تلك الصيغة الفدرالية وكأنها بقرة بني إسرائيل التي يتجادل القوم على لونها وشكلها مع أن الغاية والإشكال الأساسي الذي عانى منه ولازال الشعب اليمني هو غياب الدولة المدنية التي تبسط نفوذها في كل أرجاء ومساحة الوطن اليمني وهذا يتأتى بداهة بعقد اجتماعي جديد يفضي لدستور جديد متفق عليه ينظم أمور دولتهم المنتظرة في النظام المدني الذي يتساوى فيه اليمنيون في الحقوق والواجبات والتوزيع العادل للثروة وبسط هيبة الدولة والقانون فالعدل أساس الحكم ، وكان مقرراً إنهاء مدة الحوار الذي انطلق منذ ستة شهور في الشهر الماضي ولكن يبدوان المتحاورون وصلوا إلى طريق مسدود وتركوا الرأي العام في حيرة من أمرة ، وحقيقةً لم يمُر زمناً صعباً على اليمنيون في تاريخهم الحديث كمثل هذه الظروف المربكة والقاسية من استمرار حالة الفوضى والفلتان الشامل وتردى متواصل في الخدمات ، والعوز والفاقة التي لازمتهم حينا من الدهر ، وحالة الإحباط والقنوط مثلما هو عليه اليوم ، ، فقد قُدر لليمنيون في هذه الحقبة من تاريخ اليمن السياسي الحديث أن يعيشون حالة من المسخ والمنزلة بين المنزلتين ، وكيف يراد من جهة سياسية يفترض أن تكون عهدا بائداً أن تظل تتحكم في مصير الأمة ويتسأل آخرون كيف للمبادرة الخليجية أن لا تتوقع بأن يظل من منح حصانة أن يظل يشارك في الحكم ويعارض في نفس الوقت ! ، فحالة تردي الأوضاع التي نعيشها اليوم تفسر في علم الجريمة ( ابحث عن المستفيد) وبداهة فأن المستفيد في عبث اليوم وحالة الفساد هو من عبث في مقدرات الأمة لثلث قرن ، وعليه لن تقوم لليمن قائمة حتى يتوارى من عبث بأحلامهم ولازالوا طلقاء بأموال الشعب يبثون السموم من خلال إعلامهم السخيف ، والى متى تضل قنوات أحزاب سادت ثم بادت تستخف بعقول اليمنيون ، يبدو ان هؤلاء لا يدركون معنى المعارضة والسلطة فهم يمارسونها في وقت واحد ، ومن ضمن أخطاء وحدة مايو الارتجالية محاولة وإصرار من شاركوا فيها بغسل عقول العامة وعدم توعية شعبهم بجوهر الديمقراطية وما يجري وجرى ليس ديمقراطية بل (ديماغوجية) وضحك على العقول ليس إلا!
يقف المواطن البسيط اليوم الغارق في فقره ومرضه وجهله فيما يطرح له اليوم من خيارات تناقش في مؤتمر الحوار الوطني الشامل ، فكيف يتقبل بما يدعونه التمديد للوضع الحالي المقرون بحالة من اليأس المطلق وترك الجلاد يعبث بحصانته ويعرقل الحوار ويهدد بتفتيت الوحدة الوطنية والتمديد أيضا يعنى للبعض مجرد تمديد الهم والغم وحالة اليأس والقنوط ، ومثلما انتخب الرئيس التوافقي على النخب أن تتفق على شخصية وطنية مدنية أو من عدة متنافسين على أن لا يكون بينهم من الحرس القديم والعسكريون ، واللافت بأن النخب الحاكمة لم تستغل الفترة الانتقالية لترتيب أمور البيت اليمني بحيث مرّ الزمن في جدل عقيم وهيكلة لم تتم وحصانة تسرح وتمرح في الأرض فسادا ومن هنا لا يعول الكثير من اليمنيون في فكرة التمديد بقدر ما يخشون من عودة بعض بقايا النظام القديم ، وما ترشيح الرئيس التوافقي بهذا الزخم ليس حبا فيه بقدر ما هو كرها في الماضي الألئيم ، ومن هنا فالشعب لازال بالفعل بين نارين العودة لجلاده الذي نكل به حيناً من الدهر وقد يعود بصيغة مختلفة ، وبين طريق غير محدد المعالم ، وكذا يقف مكتوف الأيدي بين ما يعرض له من أشكال ملونه مغرية من الفدراليات فقبل أكثر من ستة عقود كان اليمني البسيط يعتقد بأن الدستور رجل شرير يتآمر على الأمام والثورة ماهى إلا زوجته الأكثر شرا منه! فنتيجة للتجهيل فلا زال بعض اليمنيون لم يدكون بعض من تلك المفاهيم حتى اليوم ، هاهم اليوم يلهثون وراء سراب الفدرالية ، والتي يجذب بريقها البعض في الانغماس فيها دون التعميق في مدى أهلية اليمنيون للتعامل مع الشكل الجديد لدولتهم ، وعليه فان تباين الآراء حول شكل الفدرالية المتوقعة هو أمر طبيعي وظاهرة صحية فاختلاف الرؤى العام بالفعل رحمة وقد يفضى لتوافق عام ، لقد كثر الجدل بين النخب المعنية بمألات الحوار الوطني الشامل حول مفهوم الفدرالية وأشكالها والتبس على البعض تداخل المفاهيم في مثل تلك المصطلحات الجديدة على ثقافتهم ومن هنا يرى البعض ضرورة وجود هيئة تختص بالتوعية المزدوجة للرأي العام وللنخب ذاتها فبعض البلدان المهتمة أنشئت وزارة التوعية السياسية ويمكن أن يسمى بمركز التنمية السياسية يستوعب كل العناصر المهتمة من كافة ألوان الطيف السياسي المشاركة في الحوار إلى جانب بعض الأكاديميين والإعلاميين ويمكن الاستعانة برجال القانون والإدارة من غير اليمنيين إذا اقتضت الضرورة ، وعند إعلان وحدة مايو الارتجالية كان من ضمن الأخطاء ولوج المجتمع اليمني لمرحلة ما أسموه بالديمقراطية والتعددية الحزبية فتم التعامل مع تلك القيم بما لا ينبغي ، ذلك أن المواطنين في كلا الشطرين غير معتادين لأجواء الديمقراطية فغدت لدى البعض فوضى ومطية للهجوم على الآخر من دون ادني مسؤولية.
وكما وإدت الوحدة بيد صانعيها ، وغدت وحدة مصالح لمراكز القوى المتناحرة اليوم وكذا لم تكن الديمقراطية منذ انبلاج الوحدة المسخ يوما ما بالمفهوم الحقيقي والاهم من ذلك الدستور الذي يفترض بأنه يفصل بين السلطات الثلاث جعلها مركزة بيد واحدة يدير أمور الدولة بالتلفون ، ومن هنا فأن الفدرالية لن تكون فردوس اليمن المقبل ولن تكن بأي حال من الأحوال طريقا مفروشا بالورود ، طالما لازالت نفس العقلية ونفس النخب الحاكمة.
لقد سرق حكام اليمن في العقود الأخيرة آمال شعبهم وتطلعاتهم في الوحدة والعزة والعيش الكريم ، وغدا قرارهم بيد غيرهم لقد سلبت إرادة اليمنيون وهاهم اليوم ينتظرون ما يقره لهم غيرهم لقد استقبل اليمنيون الوحدة بروح تفاؤلية ولم يدرك البعض نوايا قادتهم ونزعتهم الأنانية النرجسية التي دخل كل من شريكي الوحدة بروح اقصائية هاهم اليمن في المشهد السياسي ، جميعهم من غرق في العهر السياسي بدون استثناء سواء من يعبث بالوطن من داخله أو يتجول خارج الوطن ويتسول دعماً واهما لمشاريعه الصغيرة ، فغدا هؤلاء يتحالفون مع أعداء الأمس ، بينما يتخاصمون مع شركاء الأمس ، وكل ذلك من اجل شهوة السلطة ، الأمة اليوم ترنو لزعامة شعبية وليس مصطنعة ونريد عقد اجتماعي جديد ينصب رئيسا ليكون موظفاً لفترة معينة فأن أصاب فيمكن التمديد له لفترة واحدة أخرى كما هو معمول به في بلدان العالم ، اليمنيون اليوم يتطلعون للخروج من هذا المأزق المصطنع ومن حالة الخواء الفكري والتيه والضياع فلا يعقل أن فترة انتقالية تدل أخرى ويصبح هذا الجيل حقل تجارب لدهاقنة السياسة !