احترت في تقديم صورة كلامية، مستنداً إلى مثل شعبي أو غيره وإسقاطها على حال مدينتي الحبيبة, تعز, التي طالما تحايلنا عليها بوصف «الحالمة», وتركناها لسنوات وعقود تحلم بيوم أفضل لم تجده بعد, غير أن حالها اليوم وبعد غيابي عنها لأكثر من عام وشهر، جعلني أعجز عن القول إن مايجري فيها ينطبق عليها المثل القائل «مخرب غلب ألف عمار».
مايحدث في مدينة تعز والمحافظة اليمنية الأولى سكانياً وعلماً وثقافة وتمدناً ووعياً وثورة ونضالاً وسياسة واقتصاداً ونقابات ومنظمات مجتمع مدني, كما يفترض أو كما كان, يتم بصورة تتجاوز المثل السابق «مخرب غلب ألف عمار», بسنوات ضوئية قد نعجز عن إحصائها، حيث تتعرض لدمار وخراب ممنهج، ليس في الشوارع ومؤسسات الدولة فقط, ولكن في جوهر وحقيقة هذه المدينة التي طالما تغنى بها اليمنيون, ويشمل الوعي والثقافة والمدنية والسلوكيات والأخلاق والممارسة في وقت أعلنت بقرار جمهوري عاصمة للثقافة اليمنية, مايهدد تصدرها للمشهد التطويري للوطن كله ويجعل منها مجرد مسخ لم تغادر مربع التخلف والفوضى والعبث وتراجعت “هرولة”, عما كانت قد تميزت به عن بقية محافظات الوطن الغالي كله.
قبل عام وشهرين من الآن تناولت في هذه الصحيفة وضع المدينة من خلال ما أزعجتني روائحه النتنة ومناظره المقززة لأكوام القمامة المنتشرة في شوارع وأحياء وأزقة المدينة، وكذلك المجاري الطافحة كأنها ينابيع للمياه المتدفقة من باطن الأرض إلى سطحها, وبسبب ذلك استغربت تعايش أبناء تعز والمارة بالشارع مع الوضع وكأن شيئاً لم يكن.
الأمر هذه المرة تجاوز المعقول وصار أبشع مماكان، وحساسية الناس صارت أقل إن لم تكن منعدمة, وفي مقابل ذلك تضاعف حجم أسراب البعوض والصراصير الناقلة للأوبئة والأمراض الخطيرة, وقد كنت ضحية لـ «عضات النامس» وأثمرت فوق الآلام والجروح وعكة صحية أجبرتني على البقاء في البيت أربعة أيام واضطررت لمغادرة مدينتي مريضاً.
طفلتي الصغيرة, كانت ضحية لـ«حمى الضنك» وفجعني الطبيب المناوب في أحد المستشفيات الخاصة بأرقام مهولة للوافدين إلى المستشفى جراء «حمى الضنك» و «الملاريا» وأمراض أخرى, واشتكى لي من «غزوات النامس» إلى داخل المستشفى وغرف التمريض وأسِرة المرضى وعجزهم عن مقاومتها, لكون السبب خارجاً عن إرادتهم ويتعلق بالشارع والحي.
مصدر في مكتب الصحة بالمحافظة تحدث عن أرقام مفزعة خلال الشهر الجاري تتجاوز ماحصدته «حمى الضنك» خلال بقية أشهر السنة, والأمر لا يحتاج إلى أكثر من حملات لمكافحة البعوض ورفع أكوام القمامة، وأيضاً معالجة مشكلة المجاري الطافحة أولاً فأولاً, وهذه مهمة أجهزة الدولة ومن وظائف ومهام السلطة المحلية للمحافظة، ومعها حملات توعية للمواطنين وحشد المجتمع لأجل ذلك.
لن أتحدث عن الوضع الأمني والرصاص والمسلحين والاغتيالات والعصابات والتقطعات وعمليات الثأر والحروب التي تحدث في المدينة وضواحيها ومختلف مديريات محافظة تعز.
ولن أتحدث عن الفجيعة التي استقبلتني باغتيال صديقي العزيز الدكتور فيصل سعيد المخلافي وهو في طريقه إلى إحدى محاضن العلم والمعرفة وأعزل إلاّ من القلم والكتاب وإصراره على المدنية والتنوير ورفض محاولات جر تعز إلى الفوضى ووصل انتقاده لأقرب الناس إليه عبر صفحته في الفيسبوك.
ومن خلال الشهيد الدكتور فيصل كان يراد لتعز أن تغرق في أتون كراهية وثأر وصراع مع شقيقتها مأرب، وكان إعلام النظام السابق وأطراف سياسية أخرى تنفخ في ذلك, رغم أن ما حدث من ردة فعل حمقاء تجاه منازل بعض الإخوة المنتمين إلى مأرب وقد صاروا تعزيين أكثر منا أبناء تعز الذين في المحافظات الأخرى ومنها مأرب.
إنها ذات الأيادي التي توظف المشاكل القديمة كثارات قريتي قراضة والمرزوح في جبل صبر, وهي الأيادي التي تريد خلق صراع طائفي في تعز من خلال قتل الشاب الجنيد في منطقة كلابة, وعمليات اغتيال أخرى في جبل صبر وواحدة في مديرية التعزية, ويتم التعبئة والتحريض والتلفيق والافتراء والنفخ في الفتن بصورة منظمة وممنهجة.
لا أحد يمكن أن يبعد قيادة السلطة المحلية للمحافظة مما يحدث, وأيضاً هناك مسئولون آخرون في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية, والشخصيات والأحزاب والأطراف السياسية, بصورة مباشرة أو غير مباشرة, بقصد وبدون قصد, الجميع يتحملون المسئولية، وإن كان للدولة وأجهزتها ومسئوليها النصيب الأكبر.
تعز بحاجة إلى أبناء أوفياء حتى لو كانوا ينتمون لمحافظات أخرى, فهي لم ولم تكن مناطقية أو طائفية, وخصومتها للعصبية النتنة بمختلف ألوانها معروفة وأكيدة, فهل تجد هؤلاء الأبناء الأوفياء، ومتى يتحركون لإنقاذها من كارثة بيئية وصحية ومائية ومدنية وثقافية؟.
"الجمهورية"