لاشك ان اليمن مرّ كغيره من الدول بمراحل عدة من الضعف والقوة، والفقر والغنى، على مر التاريخ منذ ان خلق الله الارض ومن عليها، لكن الله جل وعلا جعل لكل شيئ سببا، فجعل حيوانا من اضعف مخلوقاته وهو الفأر سبباً لتهدم سد مأرب، وتمزق اليمنيون شذر مذر في اصقاع العالم، وجعل بشرا "من أضعف مخلوقاته أيضاً" سببا في رفعة اسم اليمن ودخول الاسلام اليه؛ وهي الملكة بلقيس التي اسلمت مع نبي الله سليمان وتبعها قومها..
ومنذ بدء الخليقة فانه ومهما تساوت الامور من حيث الضعف والقوة إلا ان هناك بونا شاسعا بين من يبني ومن يهدم، وبين من يُغني ومن يُفقر "بسبب الممارسات والسياسات الخاطئة وليست الاقدار التي لامناص منها"، وبين من يُعلي ومن يهوي.!
نجد أن البناء والإغناء والإعلاء والراحة والاستقرار والامن والامان؛ كلها تُنسب الى شخصيات إيجابية، ولازال التاريخ يُسجل أسماءها وسيرها بأحرف من نور، وذاكرة الشعوب تحتفظ لهم بوافر الشكر والامتنان، بل وتعتز بهم ايما اعتزاز وتحاول اجترار واستلهام تجاربهم والتأسي بهم، فيما يذكر الطرف الاخر دائما بشيء من الدونية والتحقير بل والاشمئزاز في بعض الاحيان، كالفرق تماماً بين الملكة بلقيس وفأر سد مأرب..!!
من هنا يجب ان نضع الامور في نصابها، وان نتحدث عن المشاريع الصغيرة لاصحاب العقول الصغيرة الذين يريدون ان يفتتوا اليمن لصالح مشاريعهم تلك، سواءً كانت مشاريع دينية عقائدية، او سياسية ديماغوجية، فالامر سواء..!!
بمجرد انطلاق الثورة الشبابية بدأ العديد من الشخصيات والقوى السياسية بحجز أماكنها و"تسوير بقع خاصة بها ضمن إطار الثورة" والاعلان عن مشاريع وبرامج سياسية بدأت تطفو على السطح شيئا فشيئا الى ان اصبحت واقعا نعيشه اليوم، وكلٌ منهم يرى ان مشروعه او برنامجه هو الاحق بالتنفيذ والتطبيق على ارض الواقع، الامر الذي يمكن ان يؤدي الى عراك منهجي فكري، ويمكن ان يصل الى صدام عقائدي تستخدم فيه انواع الاسلحة لاقدر الله..
اتذكر عندما كنت في القاهرة اواخر العام 2011م ان احدى القنوات السلفية (....) عرفت ان دراساتي الابتدائية كلها في السعودية، واني متحدث جيد ولي اهتمام بالشأن السياسي اليمني بحكم المهنة والمهمة التي جندتُ لها نفسي تلك الايام وهي الترويج للثورة الشبابية في مختلف القنوات الفضائية العالمية، فاستضافتني للتحدث حول الاوضاع في اليمن، لكني فوجئت بأن البرنامج كان مكرسا للحديث حول المناوشات التي كانت تحدث آنذاك بين الحوثيين والسلفيين في دماج بصعده..
بدأت اتحدث في اتجاهٍ لم يعجبهم.. قاطعوني.. حاولوا الايحاء لي ببعض الافكار التي تسير في فلكهم.. حاولوا تذكيري بدراساتي السابقة ومنهجي السني.. ضربوا في الحوثيين.. قلت له سأقول لك شيء واعتبرها نقطة نظام وليست ضمن الاجابة على استفساراتك الخاصة بموضوع البرنامج..
قال ماهي؟
قلتُ النائحة المستأجرة ليست كالثكلى.. انت تريد ان "تُسخن" البرنامج لتكسب جمهورا متابعا وانتشار اوسع ولاتفكر في غير هذا، اما أنا فأفكر بالموضوع من زاوية اخرى.. إنها بلدي، ويعز عليّ ان يتقاتل ابناءها لأي سبب كان، سواء كانت اسباب سياسية او ايدولوحية او عقائدية او اي كان، في الاخير الجميع يمنيين مسلمين معصومي الدم..
وكانت وجهة نظري ولازالت ان اي خلاف فكري عقائدي ايدولوجي لابد ان يحل في اطار الفكر وان يجنب السلاح، لان الفكر لايقابل إلا بالفكر، والسلاح حيلة العاجز، وأرى ان المنتصر في الحرب العقائدية سينظر الى هذا النصر على انه رسالة من الله بأنه على الحق وعليه ان يبلغ دين الله "وفق معتقده ومذهبه" الى الناس جميعا وسيستعد للفتوحات كما عملت طالبان في افغانستان والمحاكم الشرعية في الصومال وغيرها..
* الحوثيون اعلنوا عن مشروعهم بجلاء، وهو المشروع المذهبي الذي يسعى لإقامة حكم شبه ذاتي وضاحية شمالية على غرار الضاحية الجنوبية في لبنان وفق توجهات نفس الداعم والممول لتلك الضاحية، وبما يخدم استراتيجيته واجندته السياسية في المنطقة، وهم قد بدؤوا بالاعداد لذلك منذ الايام الاولى للثورة، واستمروا في الاعداد والتنفيذ التكتيكي الممنهج؛ وصولا الى الاربعاء الماضي؛ أثناء مراسم التشييع لمؤسسهم السيد حسين بدر الدين الحوثي رحمه الله، حيث استعرضوا قوتهم كاملة وتنظيمهم المبهر كجماعة حاكمة؛ لديها كل مقومات الحكم والسيطرة والقوة، من شرطة وامن ونظام، وامكانات مادية ومعنوية هائلة..
* علي سالم البيض يُقدم مشروعا يحمل جينات فشله في داخله، وقد بدأ بتنفيذ مشروعه بطريقة تخريبية تدعو للبكاء على حال هذا الرجل المريض الذي كان في يوم من الايام ملء السمع والبصر، وقد حاول استعراض بعض قوته في شوارع عدن والمكلا، واغرق البلاد بالمخدرات والاسلحة التي يوزعها على بعض الشباب المغرر بهم..
- حاول ان يستعرض قوته العسكرية وان بشكل اقل من الحوثيين؛ عندما استعرض مندوبه في حضرموت "بامعلم" وحدات رمزية من جيش الجنوب قبل فترة، ومستمر في تنفيذ مشروعه بأموال مدنسة لايلتقي معها فكرا، ولا يمكن القبول بها منطقا!!.
* حيدر ابو بكر العطاس وعبدالرحمن الجفري وبعض الاسماء الاخرى التي لايتسع المجال لذكرها تحاول ايجاد موطئ قدم لها في اي مشروع، سواءً فك الارتباط او الانفصال او الوحدة او الفيدرالية او الكونفدرالية او الحكم المحلي او اي شكل اخر من اشكال الدولة، المهم دور قيادي والسلام، وهذا مشروعهم الشخصي "بريق السلطة ومالها"، لذلك لافرق عندهم اين يكونوا، في اقصى اليمين ام في اقصى اليسار.. لافرق..!!
* المؤتمر الشعبي العام مشروعه الرئيسي استعادة مجده السابق، وأخذ الثأر ممن اسقطه عنوة من فوق حصانه، وبالتالي فمشروعه لايحتاج الى الكثير من التفصيل، فالحقد يقتل صاحبه "كالنار تأكل بعضها إنْ لم تجد ماتأكله"، وبالتالي لابد ان يتم ترشيد سلوك هذا الحزب ومحاولة التحكم بمفاصله من قبل الرئيس عبدربه منصور هادي والحفاظ على بقائه ضمن منظومة السياسة اليمنية، وعدم اضعافه..!!
* احزاب اللقاء المشترك تحمل مشاريع مزدوجة، حيث توحّدت في المشروع الرئيسي وهو وراثة الرجل المريض العائد من الموت "علي صالح" والتكويش على كافة مفاصل الدولة ومقدراتها كوريث شرعي للمؤتمر الشعبي العام، ورغم صغر هذا المشروع مقارنة بحجم الوطن وأمنه واستقراره وسعادته ومستقبله؛ الا ان هناك مشاريع أصغر من هذا وهي المشاريع الخاصة بكل حزب، ويتم تنفيذها بطريقة تكتيكية، وهي المشاريع الايدولوجية والسياسية بشكل عام، فكل حزب من احزاب المشترك يسعى لتمكين مشروعه السياسي في مجال سيطرته وحصته التي استطاع ان يحصل عليها ضمن التقاسم الحاصل لمقدرات الدولة التي تم تقاسمها كمال مات صاحبه!!، سواءً كان وزارة او مكتب او غيرها..
وهناك مشاريع شخصية لبعض الشخصيات السياسية الحاكمة حاليا "مدنية وعسكرية" والتي ساهمت في إسقاط النظام السابق وتطالب حالياً بالمقابل، منها مشاريع مناطقية همها الاكبر نقل المركز المقدس من محافظة الى اخرى، ومنها مشاريع جهوية لابد ان يتم الحفاظ عليها كعرف سائد منذ عشرات السنين وبالامتيازات ذاتها؛ بل ربما اكبر من السابق، ومنها المشاريع الاقتصادية التي تدخل في اطار الابتزاز بالمواقف من الثورة والنظام السابق، ومنها المشاريع الصغيرة لبعض المشائخ والمهربين والمواطنين العاديين الذين استطاعوا ان يستغلوا التماهي الحاصل في البنية الامنية وغياب الدولة ومقوماتها وفتحوا مجالات تعاون مع بعض القوى او الدول في الخارج..!!
* أخيرا لابد لكل مشروع سياسي من حامل، والذي يجمع كل هذه الشخصيات والقوى السياسية بمشاريعها المختلفة ومشاربها المتنافرة هو الحامل الخارجي للاسف الشديد، فهناك اموال تتدفق من الخارج دون توقف، بل وبتنافس منقطع النظير، سواءً من ايران او قطر او السعودية او تركيا، ومؤخرا وجدنا مشاريع صغيرة لنشاطين "فئران" صغار يستلمون من تونس وتركيا وبعض دول الخليج الاخرى، ولايوجد اي مشروع سياسي يكون حامله اليمن ومستقبله إلا مارحم الله "وقليلٌ ماهم"..