الانقلاب العسكري في قفص الاتهام!

2013/11/09 الساعة 05:26 مساءً

الفريق أول.. مخالي!

قد يكون الإسلاميون في مصر أخطأوا في تقديراتهم لمدى التزام العسكر بقواعد الممارسة الديمقراطية، فظنوا أنهم سيلتزمون بالحياد بين القوى السياسية؛ كما يحدث في المجتمعات المشابهة أو كما يحدث الآن في تونس.. فرغم تشابه مظاهر الأزمة التونسية مع مثيلتها المصرية (حتى في الدول التي تتدخل لإفساد التحول الديمقراطي قبل اكتماله، وشن الحملات الشرسة ضد حكم الإسلاميين!) إلا أن الجيش التونسي لم يبد حتى الآن أي رغبة في التدخل أو توجيه إنذار (يا استعمار!) على الطريقة المصرية!

 

المؤكد أن العسكر في مصر (وحلفاءهم المحليين من ثوار الغفلة وفلول مبارك، وحلفاءهم العرب ومؤيديهم الصهاينة والغربيين) قد أخطأوا الحسابات، أو لم يعملوا تقدير موقف إستراتيجي على الطريقة العسكرية  (التي قال قائد الانقلاب العسكري إن الجيش المصري قدمه للرئيس مرسي عدة مرات حول الأخطار المهددة لمصر بسبب الأزمة السياسية ولم يأخذ بها) يجنبهم المأزق الخطير الذي زجوا بمصر فيه؛ عندما توكلوا على شياطينهم وقرروا الانقلاب على سلطة منتخبة يدعمها تيار شعبي عميق الجذور وأصيل في انتمائه للشعب المصري.. ويبدو أن قصارى ما وضعوه من تقديرات إستراتيجية هو تسمية فعلتهم بأنها: ثورة شعبية خرج فيها الملايين لمدة ست ساعات مما أباح الانقلابات وجعلها فعلا وطنيا، ونقلها من خانة البغضاء والحرام السياسي إلى مربع الوطنية والحلال!

 

ولأن المفتري عيونه فارغة، ولا أحد يغلبه في "المصلابة" فها هو الشهر الخامس من عمر الانقلاب العسكري يدخل على مصر وهي في حالة خطيرة جدا من الانقسام السياسي، والتفكك الاجتماعي، والتوتر الطائفي (بعد حماس وتأييد الكنائس المصرية للانقلاب ضد الإسلاميين!)، والتدهور الاقتصادي والمعيشي رغم مليارات البترول التي تتدفق على مصر!

 

في الأمثال الشعبية المصرية يقال: مخالي غلط في الحساب.. وقصة المثل أن أحد المليونيرات اليونانيين في الإسكندرية قرر تصفية تجارته بعد أن وصلت ثروته إلى عشرين مليون جنيه، والتفرغ لحياة اللهو والنتعة في جميع أنحاء العالم؛ بحيث ينفق نصف مليون في العام، وحسب يومها أنه لن يعيش أكثر من أربعين سنة مما يجعل ما جمعه كافيا له حتى الموت.. والذي حدث أن الأربعين سنة مرت، وانتهت الأموال، وعاد مخالي إلى الإسكندرية فقيرا لا يملك إلا البالطو الفخم الذي يلبسه، وصار يسكن فيه، ويقضي يومه جالسا على مقهى، وينتظر أن يتصدق عليه أحدهم بسندويتش فول وواحد شاهي هو كل طعامه الذي يتناوله في اليوم، ثم في آخر الليل عند إغلاق المقهى يبحث لنفسه عن مكان للنوم في أي سلم عمارة أو بجانب بوابة حتى وجدوه يوما ميتا في معطفه في قارعة الطريق .. وعندما كان يسأله من يعرفون ماضيه عن سبب ما حلّ به؛ كان يجيبهم بعبارة واحدة: "أصل مخالي غلط في الحساب!".

 

غلطة في الحساب.. والتاريخ!

منذ يوم الانقلاب المشؤوم في مصر والنتيجة تتأكد أن الذين خططوا، ومولوا، وشجعوا، ودعموا، ونفذوا، وهللوا للانقلاب العسكري قد غلطوا ليس في الحساب فقط ولكن أيضا في التاريخ، والتربية الوطنية، وعلم الإستراتيجية، وفي القانون الدستوري.. وهي النتيجة المأساوية التي وصل إليها مخالي اليوناني وجعلت نهايته بتلك الصورة الحزينة.. وها هم شلة الانقلاب/ الثورة يواجهون اليوم ؛ومنذ خمسة شهور؛ نتائج غلطتهم التي ظنوا أن تسميتها بالثورة سوف يمنحها شرعية في الداخل والخارج.. وباستثناء التأييد الصهيوني للانقلاب فلا توجد دولة ديمقراطية تؤيده بقوة وصراحة وتدافع عنه وعن شرعيته، وقصارى ما تصنعه الدوائر العالمية أنها تتعامل معه بانتهازية معروفة عنها، وتتعامل مع أصحابه كما يتعامل القط مع الفأر عندما يقع بين يديه!

 

على المستوى الشعبي؛ لم يفهم العسكر وأدعياء الدولة المدنية أن الزمن تغير بالفعل، وأن في الشعب المصري قوى انكسر في دواخلها حاجز الخوف من السجون والسجان، ومن الموت والرصاص، ومن مواجهة المصفحات وكتائب الأمن. ولطالما كان المصريون يعيبون على أنفسهم أنهم شعب مدجن جبان، يؤثر السلامة بمنطق: اللي يجوز أمي أقله يا عمي! وامشي جنب الحيط.. والباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح.. إلخ آخر المنظومة النفسية السلبية التي رسخها الاستبداد المحلي في النفوس (لا ينطبق الأمر على الاستبداد الأجنبي فقد ظل المصريون يواجهونه بشراسة كما حدث في عهد الاستعماري الفرنسي والإنجليزي!).

 

وما لم يأخذه العسكر وحلفاؤهم في الحساب أن النفسية القابلة للاستبداد قد تغيرت معالمها في مصر منذ ثورة 25 يناير ضد نظام المخلوع مبارك.. فمن يومها أيقن الناس أن الفراعنة والطغاة هم ظلال من الخوف، وأن سقوطهم مرهون بوعي الناس أولا بحقوقهم وضرورة التمسك بها والدفاع عنها مهما كانت التضحيات ومهما بلغت حقارة.. الخيانات!

 

وبالتأكيد لم يكن أحد من أطراف لعبة الانقلاب يظن أن المعارضة المصرية لثورتهم الشوهاء سوف تكون بهذه القوة المتسمة بالوعي العميق بها، ولا أن تكون بهذا الاتساع والإصرار على الاستمرار، ولا بهذه الروح المستعدة للتضحية بالغالي والنفيس.. حتى رأينا أن الأب والابن يقتلان في واقعة واحدة فلا يفت ذلك في إيمان أهلهم.. وتقتل الزوجة في أحضان زوجها أو أمام أولادها فلا يصرفهم ذلك عن المقاومة.. ويقتل الزوج أمام عيني زوجته والابنة بجانب أبيها أو أمها فلا تهتز النفوس ولا تنهار المعنويات، ولا يضعف الإيمان بعدالة القضية: أن يعيش المصريون أحرارا من بيادات العسكر.. رجالا لا يرضون العودة لحياة الإذلال والتعسف والقهر!

 

هذه الروح المستعصية على الانكسار تجسدت الاثنين الماضي في الرئيس المختطف محمد مرسي وهو يظهر علنا لأول مرة منذ اعتقاله قبل أربعة أشهر.. ورغم الحبس، والعزلة عن العالم إلا أنه فاجأ أعداءه بذلك الحضور المهيب الواثق من نفسه على العكس من الصورة المهينة التي ظهر بها الفرعون مبارك في جلسات محاكمته: راقدا على سرير طبي مدعيا المرض.. وفي القفص لم يكن أحسن من تاجر ممنوعات تم حبسه وعرضه على القاضي فلم يجد أكثر من أن يقول: بريء يا فندم.. وما حصلش يا سعادة البيه!

 

ولم يكن في موقفه أي جديد فقد قالها أبو الأحرار اليمنيين قديما:

إن اللصوص وإن كانوا جبابرة

   لهم قلوب من الأطفال تنهزم!

وهذا هو الفارق بين زعيم كذاب لص متجبر ؛هو أقرب لأن يكون زعيم عصابة لصوص؛ سام شعبه الهوان والذل.. وبين زعيم نظيف السيرة واليد.. لم يأخذ من خزينة الدولة فلسا واحدا مقابل عمله، وظل يسكن في شقة عادية، وابنه بدون عمل، وشقيقته ماتت في مستشفى حكومي، وأهله يسافرون على نفقته الشخصية!

 

جرائم بلا حدد!

لم تكن جرائم العسكر الانقلابيين في مصر واحدة.. ولا اثنتين.. بل سلسلة مستمرة لم يعرفها المصريون أبدا في تاريخهم المعاصر (على الأقل!)، ولولا الفجور المحلي والعربي والعالمي الذي يتعامل مع الجرائم ضد الإنسانية بانتهازية معروفة لكان ما جرى يكفي لشغل المحكمة الجنائية العالمية عدة سنوات لمحاكمة المتهمين، وخاصة أنها جرائم موثقة بالصورة وبالألوان الطبيعية.. وليست أخبارا وأنباء وشهادات لفظية يمكن التشكيك بها!

 

الإسلام هو الأصل!

         كما أن هناك فرقا بين زعيم مستبد وضع البلاد في جيوب اللصوص وبين زعيم شريف.. فهناك فرق أيضا بين حركات سياسية أصيلة وأخرى تنجح فقط في دور الأربعين حرامي.. ليس بالضرورة حرامية المال بل المقصود: حرامية الشعوب وأحلامها في تأسيس حاضر مشرف ومستقبل واعد.. الأربعون حرامي في مصر الانقلاب ظنوا أنه من السهل تمرير مؤامراتهم، وإغلاق ملف الإسلاميين، وإنهاء نفوذهم في المجتمع.. وهؤلاء لم يتعلموا من دروس الماضي القريب، ونسوا أن غيرهم في مصر وغيرها ظنّ أنه قادرا على إطفاء شعلة الإسلاميين إلى الأبد واستئصالهم من الجذور، وفعل كل ما يمكنه من جبروت وإجرام لتحقيق ذلك، وبمجرد أن انقشعت الغمة وحصل الإسلاميون على شيء من الحرية؛ ولو كانت ضيقة مقارنة بالآخرين؛ إلا وانطلقوا من جديد في مشروعهم الكبير يتجاوزون العوائق، ويفتحون في الصخور منافذ للنور.. وكم من حركة إسلامية واجهت الويل وعانت من الكبت والسحق بمعنى الكلمة ثم انتفضت من جديد كما قال الشاعر المتنبي عن نفسه للذين أشاعوا خبر موته:

 

       كم قد قتلت وكم قد مت عندكم

           ثم انتفضت فزال القبر والكفن

     قد كان شاهد دفني قبل قولهم

           جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا

      هل تجوز هنا المقارنة بين الأصالة التي تتأبى على الكيد والسجون والموت.. وبين الطارئات التي تكبر أو لعلها تنتفخ في أحضان السلطة أو لكونها موضة العصر؛ ثم إذا تعرضت لأقل مما تعرض الإسلاميون تلاشت وهوت إلى الحضيض، فلا تقوم لها قائمة بعد ذلك ولو أتيح لها أكبر ما أتيح للإسلاميين من فرص العمل بل والاعتراف الرسمي؟ قارنوا ما حدث من مآس للإخوان في مصر ثم كيف خرجوا من أسوأ المعتقلات ينحتون الصخر ويعيدون البناء من جديد حتى صاروا القوة الشعبية الأولى.. قارنوا حالتهم بحالة غيرهم من الأحزاب التي لم تتعرض لما تعرض له الإسلاميون، وحصلت على اعتراف رسمي ودعم من الدولة فلم يعد إليهم روحا ولا حماسة، وظلوا أحزابا كرتونية!

    هذه الحقيقة تؤكد ليس فقط أن الإسلام هو الحل.. بل إن الإسلام هو.. الأصل!

 

مهازل مصرية!

     في محكمة الغدر التي أقامها العسكر ؛مؤيدين بأدعياء الدولة المدنية؛ للدكتور محمد مرسي وإخوانه انكشفت عورات عديدة؛ فحتى المستشار المؤتمن على الدستور والقانون يتحجج بأنه في محكمة يجب أن يطبق فيها القانون.. أما أي قانون هذا الذي يحاكم به رئيس جمهورية انتخبه الشعب وعزله انقلاب عسكري عطل الدستور فأمر لا يجد مستشار السوء فيه ما يعيب قاضيا يفترض فيه الحياد! وبالمناسبة فهذا القاضي هو الذي رأس محكمة قدم إليها أربعة من المواطنين الرافضين للانقلاب بتهمة أنهم عذبوا شخصا وقطعوا أصبعه في ميدان رابعة العدوية.. وفي المحكمة يعترف الرجل بأنه كذب في شكواه بضغط من الضابط فلان الذي أجبره على تلفيق التهمة بينما هؤلاء الأربعة هم الذين أنقذوه.. فلا يصنع القاضي بتاع القانون إلا أن يقرر استمرار حبس الأبرياء، ويستدعي الضابط المفتري للشهادة بعد أسابيع.. وعلى أقل من مهله!

 

مهازل تنوء بها أرض الكنانة!.. ومنها محلل انقلابات ظهر في التلفاز المصري يبرر محاكمة رئيس الجمهورية بأنها جائزة لأنه ارتكب الخيانة العظمى بإصداره إعلانا دستوريا يمنع مؤامرة القضاء للإسقاط الدولة بمؤسساتها النيابية ولجنة كتابة الدستور.. ومن حسن حظ المحلل أنه كان في قناة مصرية رسمية وإلا لسئل: وهل إصدار رئيس جمهورية منتخب – وفي وضع لا يوجد فيه دستور – أكثر خطأ وإجراما من إصدار وزير دفاع قرارات تعزل الرئيس المنتخب، وتعطل الدستور المستفتى عليه، وتمنح الرئيس الانتقالي الانقلابي حق إصدار إعلانات دستورية كما يريد؟

أيهما أولى بذلك؟ وأيهما بالتالي أولى بالمحاكمة؟

في قناة أخرى كانت مذيعة ؛عملت مسؤولة إعلامية في آخر انتخابات رئاسية لإعادة انتخاب مبارك ؛بالتزوير طبعا؛ تسأل مراسلها عما قاله مرسي في المحكمة، فلما علمت أنه كرر أكثر من مرة أنه الرئيس الشرعي لم تجد إلا أن تمثل دور الشرفاء الأتقياءالأطهار، وتهز رأسها استنكارا وهي تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! حاجة تقطع القلب!