تجربة الفرد مع الدولة في اليمن ليست قائمة على الامتلاء الحسّي بالدولة، وإنما على دعامات معنوية وثقافية تعود إلى فكرة الوطن والحضارة والتاريخ العريق، لا إلى الدولة.
فالدولة اليمنية محاطة بالأنداد المحلّيين، ومُتخمة بالتسويات التي تمنع ظهورها بوجه قانوني وسيادي، أو بروزها كمركز سُلطة فعلية، وآية ذلك أنها تتسلّل إلى المواطنين عبر آلاف الوسطاء المحلّيين من شيوخ ووجهاء اجتماعيين وأصحاب نفوذ، وهؤلاء يمثّلون مراكز بديلة؛ وأحياناً حامية من الدولة نفسها, ويقدّمون الخدمات عوضاً عنها أو باسمها، فيجنون المزيد من القوة الاجتماعية التي تُستخدم ضد الدولة أو على الأقل تعمل على إبهات صورتها ودورها.
أعجبتني الفقرات السابقة أثناء مطالعتي للتقرير الاستراتيجي اليمني 2012م, الصادر عن المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية, ووجدت نفسي ليس مؤيداً لما فيها فقط؛ بل أضيف إليها, حيث إن المشكلة ليست فقط في مشائخ ونافذين ظلّوا ولايزالون في موقع «الوسيط» بين الشعب والدولة, وإذا حصل الشعب على القليل من خدمات الدولة أو «الفتات» مما يستحق, فإنه يكون عبرهم.
قد يكون هناك وسطاء محلّيون بين الدولة والشعب, وأيضاً هناك وسطاء محلّيون يريدون أن يكونوا وسطاء ما بين الشعب والخالق عزّ وجل، ويعتبرون أن عبادات أفراد الشعب إذا لم تتم وفق رؤيتهم وعبرهم ومن خلال تقلّدهم منصب الحكم عليه أو «الولاية» فإن عباداته هذه تكون غير مقبولة.
هناك علماء وتيارات وجماعات وأشخاص يتحدّثون باسم الله وباسم الإسلام, ويصرّحون أن من يخالفهم فهو على غير الصراط المستقيم, ومن يرفض شعاراتهم و«صرخاتهم» ولا يؤمن بها فهو يوالي اليهود والنصارى، ويعمل معهم لهدم الإسلام وتدمير البلاد الإسلامية والقضاء على أمة الإسلام..!!.
يتحدّثون دون خجل وحياء عن كونهم «وسطاء» بين الله والشعب, وهم لا يختلفون عمّن فرضوا أنفسهم لعقود كـ«وسطاء» بين الشعب والدولة, يسعون إلى أن نعبد الله بعبادتهم هم وليس بعبادة الله مباشرةً, وهذا هو ما حرّمه الإسلام واعتبره شركاً بالله.
وهناك وسطاء خارجيون يريدون أن يمارسوا ذات الأدوار ليكونوا وسطاء بين الشعب والدولة، ووسطاء بين الشعب والخالق عزّ وجل, وهم من ذات الألوان الداعمة والمموّلة للوسطاء المحلّيين الذين يقفون حجر عثرة أمام قيام الدولة اليمنية التي ناضل الأحرار من أجلها منذ عقود عدة.
المجتمع اليمني ليس بحاجة إلى شيء مثل حاجته للدولة التي لا يكون فيها وسطاء بينه وبينها, والخالق عزّ وجل قد حسم ذلك الأمر وجرّم اليهود والنصارى الذين اتخذوا لهم أرباباً من دونه سبحانه وتعالى.
وما يحدث في دماج بصعدة هو عنوان صارخ لهذا الصراع القائم بين الوسطاء أنفسهم, فهناك طرف اجتمعت فيه المصيبتان يريد أن يكون وسيطاً بين الشعب والخالق عزّ وجل وبين الشعب والدولة, وطرف ثانٍ يريد أن يكون وسيطاً بين الشعب و«الله»..!!.
تغيب هناك الدولة تماماً، ويحضر الوسيط ويتصارعون, رغم موقفي الواضح والمعلن ضد القتل أياً كان القاتل والضحية, فالقتل مجرّم ونرفضه جميعاً, والاعتداءات ضد المواطنين وانتهاك حقوقهم مرفوضة سوءاً أكانت من قبل أجهزة الدولة الغائبة هناك أم من قبل جماعة مسلّحة تتدثّر بالجينات الشريفة للسيطرة والحكم.
علينا جميعاً أن نتحرّك نحو إعادة الدولة إلى عرشها ووضعها على كرسي الحكم وتكون الأم والأب لنا جميعاً, حيث يكون تحت ظلالها الجميع إخوة متحابين متسامحين؛ لهم الحق في التنوّع والاختلاف؛ بعيداً عن السلاح والتكفير والتخوين, وتسود المواطنة المتساوية والنظام والقانون والعدالة الاجتماعية.
الدولة هي حلمنا وهي مستقبلنا وهي مستقبل وطننا وأطفالنا, وغيابها هو انطلاق نحو المجهول واتجاه نحو التشرذم والفوضى, ولذلك يتوجب أن تكون معركتنا الأولى والأخيرة هي بناء الدولة اليمنية الحديثة, بما يعني «بناء اليمن الجديد» الذي هتفنا له جميعاً.