لن يستطيع المرء أن يصل إلى تقدير نسبي بين أخطاءه وأخطاء غيره ، إلا إذا نظر إلى أخطائه بمنظار مكبر وإلى أخطاء غيره بمنظار عادي ..! ذاك ما كان يقول (غاندي) ، أما نحن فلا نكاد ننظر إلى أخطائنا ، وإن فعلنا فبمنظار التصغير حد التلاشي ، يليه التجاهل حد التناسي ، فمع كل يوم يمر على ربيعنا المسلوب ، ووجه ثورتنا المغلوب ، ينقشع الضباب ، وتتضح الرؤية ، وتباعاً تتكشف لنا الحقائق ، وكأننا فقط وبعد انتهاء الحدث ، نستعيد مؤقتاً الوعي والذاكرة ، ويبدو لنا عظم حجم أخطاءنا ، فيهولنا ما كان من غبائنا ، ولا يتبق لنا إلا أن نضرب كفاً بكف ، ولسان حال جمعنا ومفردنا ، يقول وبحسرة: كم كنت غبياً..!
أن ندرك أخطائنا ، ونعترف بها ، هو السبيل الوحيد لنجاتنا ، وعدم تكرار السقوط في شراكها ، فليست المشكلة فيمن ثرنا عليهم ، وإنما كيف ثرنا عليهم ، ولم تكن يوماً فيمن أجاد خداعنا ، لكنها والله في حماقة قبولنا لخداعنا ، تارة منهم لنا ، وتارة منا لنا ، وقد تخلينا في سبيل انتصارنا ، عن (الحقيقة) وبعضاً من قواعد أخلاقنا ، كيف لا وغايتنا غدت تبرر الوسيلة ، وما عساه يكون التفاضل ، بين الخير والشر ، إذا حل التماثل..؟
لقد كنا هناك ، في الستين ، مدنيون وعسكريون وقبليون ، حوثيون وإصلاح وسلفيون ، مثقفون وبسطاء ونخبويون ، متدينون وعلمانيون ، ظالمون (سابقون) ومظلومون ، دونما استيعاب جمعي لكنه (الثورة) وحدودها..عرفنا كل شيء إلا من نكون ، وكيف سنكون من نريد أن نكون.. نعم لقد جمعنا هناك كفرنا بالعدو المشترك ، لا إيماننا بالحق وقيم العيش المشترك ، وهتفنا جميعاً لإسقاط النظام ، تحركنا انفعالاتنا اللاواعية ، المحترقة بشرارة (البوعزيزي) ، لا إراداتنا الواعية ، تقودنا كراهية الظلم والعبودية لا حب العدل والخير والحرية ، يوجهنا مقت الحاكم لا عشق المحكوم والتضحية من أجل الوطن الحالم.. كنا ، وما زلنا ، في سعينا لتحقيق ما نريد وبأي ثمن – لا ندفعه نحن- نفقد شيئاً فشيء ، نزاهتنا الثورية ، واستقامتنا الأخلاقية ، ولم ندرك حينها أننا نحن من يسقط لا النظام ، وأننا من يخلعنا المخلوع ، بعد أن أصبحنا نلعب على ملعبه وبنفس أدواته وقواعده..!
لم يكن ترحابنا الغبي (حيا بهم حيا بهم) والغير مشروط بانضمام كل مسؤول فاسد ، وشيخ قبلي نافذ ، وقائد عسكري ظالم ، إلى صفوف ثورتنا (المدنية) (السلمية) ، إلا ممارسة مخجلة انتهازية ، على قاعدة (عدو عدوي صديقي) ، أو(اليوم ثورة وغداً أمر) ، ممارسة قايضنا معها ،عدالة الحق المدني بسلطان النفوذ القبلي، وقوة الحق المسالم بضعف الباطل المسلح ، وليتنا حينها ألحقنا مفردات الفساد (السابق) بصفوفنا الخلفية ، لحين إثباتها ، مستقبلاً، حسن النية ، وتلاشيها في المجموع كقيم صفرية ، فخلع ثوب الرذيلة ، وامتيازاتها اللصيقة بها، شرطاً لازماً يسبق ارتداء عباءة الفضيلة ، لكننا آثرنا دفن الرؤوس في التراب ، واستمرئنا تحالفنا مع هذا الشيطان ، علنا نهزم ذاك الشيطان..!
لنستعطف جور الجوار ، ولنتقاتل جهاداً في (دماج) ، ولنمدد (لهادي) ، بعد أن نتناسى (الحمدي) ، ليكن الزعيم زعيماً ، والأخ غير الشقيق مستشاراً ، وليكن الشيخ محافظاً ، واللص وزيراً.. فعندما تبدأ مرات ، وتنتهي الدروس ، ولا ينتهي تكرار أخطاؤنا ، يذهب العمر كما الحكمة عبثاً ، والحياة كما الثورة تبقى عبئاً... لنضرب كفاً بكف ، كما نشاء، ومجدداً بلا انتهاء ، فقط علينا أن ندرك ، أننا لابد سنقف يوماً أمام مرآة الحقيقة ، لنرى كم كنا نشبه أعدائنا ، وسنسمعها حتماً تهمس في آذاننا: انتهى الدرس يا غبي..!