تنتابني موجة كبيرة من الخوف والقلق على مستقبل الجنوب وقضيته العادلة، في ظل حالة الانقسام السياسي الحاد التي يعيشها، ولجوء كل طرف إلى مفردات التخوين، وتجريد الآخر من الولاء الوطني وشيطنته.
خمسة وثمانون شخصاً- قوام من وصفوا أنفسهم بممثلي الحراك الجنوبي السلمي في مؤتمر الحوار الوطني- فشلوا في الحفاظ على وحدتهم وتماسكهم، وكلهم يدّعي تمسكه بالهدف الذي جاءوا من أجله، ووقوفهم إلى جانب مطالب الشعب في الجنوب، واستحالة التفريط في ذلك. ما حدث فعلاً لا قولاً، أن عقدهم قد انفرط، وتفرقت جهودهم على وسائل إعلام باحثة عن الإثارة وإثارة الخلافات، ليقولوا في بعضهم ما جعلهم أضحوكة أمام الجميع، بفتحهم باب الإساءة الذي يحتاج جهود مضاعفة لإغلاقه.
للأسف الشديد أن التاريخ قلما قدم لنا أمثلة لشعوب اتعظت من تاريخها الخاص، وللجنوب تاريخ يكفي للاتعاظ، يبدو إننا لم نأخذ منه سوى العقلية الانقسامية المتشككة من الآخر والنافية له، ليس خارج حدود قدرتها على الاستيعاب فحسب، بل خارج الحدود الجيوسياسية للجنوب كوطن ودولة، وفي أحايين كثيرة كانت تتم عمليات النفي تلك خارج أسوار الحياة، دون أن يترك اثر للمنفي، ليحرم ذويه من ترتيل الدعاء وتلاوة الفاتحة على روحه الباحثة عن مأوى وسط خرابات الأمكنة.
العقلية الانقسامية التي حالت في مناسبات كثيرة دون إحداث تقارب حقيقي بين المنقسمين على أنفسهم، ربما يكون مردها إلى أفكار انقسامية قادمة من أدغال الذاكرة التاريخية، أو من واقع التاريخ السياسي الجنوبي، باعتبار التاريخ مصنوع من صدمات متتالية، ومن الممكن ايضاً أن تكون نتاج فكرة تتوجه للمستقبل لكنها ترفض الاختلاف والتنوع.
تبدو النزعة الانقسامية لدى عدد من الأفراد والجماعات السياسية الجنوبية ثابتاً من ثوابتها غير القابلة للمساومة، ولكم أن تتأملوا حالة الفشل المصاحبة لمحاولات التئام المعارضة الجنوبية في الخارج، لتقفوا على حقيقة تلك النزعة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ذات المحاولات في الداخل التي من نتائجها دائماً انقسام المجموعات تلك إلى مجموعات فردية، وتناسل التكوينات والمكونات.
المؤلم في الأمر أن القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة التي يفترض أن الحراك الجنوبي قد أنتجها، وهم أصحاب المصلحة الحقيقية في المستقبل، قد تخلصوا من مشقة التفكير في كيفية صناعة المستقبل المنشود، وأحالوها إلى المآسي التاريخية التي أسموها مجازاً "قيادات تاريخية"، ومنحوها الحق في التفكير نيابة عنهم، ليقرروا تالياً مصير مستقبلهم. لو أن تلك القوى انفكت من هذا الارتهان، لكان لها شأن آخر، ولوجدت نفسها إزاء عقل متحرر من عُقد الماضي والشغل الاقصائي، منفتح ومتسامح ومتصالح مع ذاته ومع الآخرين.
إن اللامبالاة هي أكثر المواقف سوءاً. والاختباء وراء انهزامية "ما باليد حيلة"، سيضعنا جميعاً في مواجهة إعصار الانقسامية المحمل برياح الفتنة، ما يحتم على تلك القوى تحمل مسئولياتها، فسارتر يقول: "أنتم مسؤولون من حيث إنكم أفراد"، ما يستلزم بالضرورة العمل الجاد باتجاه خلق مناعة عقلية مضادة للنزعة الانقسامية، من خلال تحصين الوعي الفردي والجمعي، وأخذ التحديات المحدقة بالجنوب وبقضيته العادلة بعين الاعتبار.