لم أكن أعلم بشئ -لا من قريب ولا من بعيد - عن تفاصيل تلك الفضيحة التي انتشر علمها بين الناس بشأن حقيقة التنصت الامريكي على مواطنيها كشعب في الداخل حتى قرأت الخبر عنها أخيراً في سياق المقال الاسبوعي المنشور في العدد الاخير من صحيفة الثوري الصادر بتاريخ 15/1/2014م الموافق ليوم الخميس الماضي تحت عنوان "الانسان متهم وإن ثبتت براءته" للاديب اليمني الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح الذي خصصه هذه المرة للحديث عن هذه الفضيحة بإعتبارها - من وجهة نظره طبعاً - سابقة مشينة ومؤسفة ووصمة عار مخزية في تاريخ التقدم السياسي والديمقراطي والحضاري للغرب بشكل عام وللولايات المتحدة الامريكية التي تتبوأ عرش الصدارة والتفوق فيه على العالم كله بشكل خاص وعلى نحو لم يكن يخطر على بال الكاتب معه أي خاطرقد يحمله في يوم من الايام على عقد مقارنة ظالمة - كما اعتبرها أنا- بحق امريكا كتلك التي ساوى سلوكها فيها مع شعوبها بسلوك الحكام العرب مع شعوبهم في هذا المقال ،،
وحين اقول هنا بانها مقارنة ظالمة بحق امريكا فأنني أعني ما اقول ,.. إذ لا ارى على ارض الواقع والمجاز ايضاً أي أساس سوي أو مقبول لإقامة مثل هذه المقارنة بيننا وبين أمريكا في السلوك لا من جانب الحكام ولا من جانب الانظمة ولا من جانب الشعوب ايضاً ، لإنتفأ وجوه الشبه والتشابه بالكلية بيننا وبينهم بل إن البون النوعي الذي يفصلنا عنهم يساوي في بُعدِه البون الشاسع الذي يفصل الأرض عن السماء ،
أما إذا كان الدكتور المقالح قد رأى فيما وصفه بفضيحة "التنصت " الذي اكتشف بأن امريكا تمارسه على شعبها انه يشكل -بالنسبه له - قاسماً مشتركا للربط الافتراضي (إذا جازلنا التعبير)أو الشكلي الذي ربط به عنوة بين نظام الحكم القائم في امريكا وبين انظمة الحكم القائمة في بلداننا العربية ،، إلا إن ذلك لايمكن ابداً ان ينسحب للربط بين الشعب الامريكي من جهة وبين الشعوب العربية كافة من جهة ثانية ,,, لان الشعب الامريكي على وجه الخصوص والشعوب الغربية على وجه العموم من بين كل شعوب العالم لاتكاد تشترك معنا ابداً -لا من حيث السبب ولا من حيث النتيجة التي تترتب عليه ، ولا من حيث التسمية أيضاً - في أي مظهر من مظاهر الواقع المؤلم والمرير الذي نعيشه وحدنا كشعوب عربية مضطهدة ومحرومة من ابسط حقوقها الفردية والجماعية في الحياة بين بقية شعوب العالم على هذه الأرض بفعل الانظمة العربية التي تحكمنا بالحديد والنار ...
فعندما تتجسس أمريكا مثلاً أو المانيا أو بريطانيا على مواطنيها هناك فلاشك إنها لاتتجسس عليهم إلا لتفيدهم ولتستفيد منهم أو لتتعرف على همومهم وطبيعة احوالهم ومشاكلهم العامة والخاصة عن قرب فتعمل على حلها ومعالجتها من حيث لايشعرون أو لتطلع على أسباب شكواهم منها ومكامن القصور والنقص في الواجبات والخدمات والمسؤليات والاحتياجات التي تقع عليها تجاههم فتحسنها وتوفرها لهم ,, أو لتجص نبضهم وتقيس مستوى تفاعلهم الشعبي معها حول مختلف القضايا والخطط والبرامج الوطنية والتنموية والسياسات الداخلية والخارجية التي تتبعها وتنفذها على مختلف جوانب واصعدة العمل المحلية والدولية من أجلهم ..
لذلك فإن المواطن الامريكي أو الغربي لم يشعرفي اي لحظة من لحظات حياته السابقة بأن هناك من كان يراقبه ويتنصت عليه في حكومته ، قبل ان يكتشف هذه الحقيقة التي أعتبرها المقالح (فضيحة) بنفسه اخيراً وعندما اكتشفها لم تتسبب في إثارة مشاعر الذعر والرعب لديه منها (كما هو الحال بالنسبة لنا كشعوب عربية) بل إنه لم يبالي او يبدي اكتراثه بها طالما كان واثقاً من نفسه ومن ولائه لشعبه ووطنه وحكومته ومؤمناً بنوايا دولته وإخلاصها تجاهه..
أما حين يتجسس الحكام العرب علينا كمواطنين (مع تقصيرهم الكبير في واجباتهم ومسؤلياتهم الوطنية والوظيفية والدستورية والانسانية تجاهنا كشعوب ورعية ) فالويل ثم الويل لنا منهم لأنهم لايفعلون ذلك عندما يفعلونه معنا إلا ليبطشوا بنا او لينتقموا منا او ليوقعوا بنا اشد اصناف العذاب واقسى ويلات العقاب أو ليسرقوا ثرواتنا ،،، ويدمروا بيوتنا ويشردوا اولادنا وليلحقوا بنأ كل الاذى ...إن لم يكن الموت المحقق هو مصيرنا منهم في احسن الحالات ،،،فليت الحكام والحكومات العربية تحديداً يتنصتون علينا ويراقبونا ويترصدون حركاتنا وسكناتنا قبل ان يدينونا بأي تهمة ولكنهم يقيمون احكامهم الجائرة بل يطبقون عقوباتهم الاستباقية -الجماعية والفردية - القاسية بحقنا قبل أن نقوم أو حتى نفكرفي القيام بشئ مما يخشون ان نقوم به ضدهم بعد ان وفروا لنا كل الاسباب والنوازع والمقدمات التي تثير مخاوفهم منا..
ومع ان "الدكتور المقالح " من أكثر الذين يعلمون بهذه الحقيقة عننا وعن الغرب كحكام وشعوب ،، إلا أنه اعتبر ان هذا النوع من "التنصت " الذي تمارسه امريكا مع مواطنيها هناك كما زعم ( فضيحة ) رغم أن الامر -فضلاًعما سبق الاشارة اليه - لايعدوا في حقيقته أن يكون -عندما يتعلق بدولة عظيمة كأمريكا - إلا واجباً مفترضاً عليها أمام شعبها في هذه الحالة لإعتبارات كثيرة لاتتمتع بها إلا أمريكا وحدها على سائر دول العالم الاخرى ،،وإجرأ طبيعي تستوجبه عليها متطلبات المسؤلية الوطنية الكبرى التي تتحملها كدولة عظيمة او غير عظيمة لحماية امنها القومي واستقرارها الوطني وتأمين حياة كل افراد الشعب وحفظ دمائهم ورعاية شؤنهم وصيانة مصالحهم العليأ فيه وتوفير السكينة العامة لهم،، ..وهو في مجمله عمل لايتنافى بأي حال من الاحوال مع الحريات الديمقراطية والحقوق والقوانين الإنسانية التي تنعم بها تلك الشعوب -أفراداً وجماعات -كواقع ملموس في حياتها اليومية ..
فشتان يادكتورنا العزيز بين من يراقبك ليحميك ومن يراقبك ليفنيك ،وبين من يراقبك ليبنيك ومن يراقبك ليؤذيك ويهدمك ، وبين من يراقبك بدافع الحفاظ على منصبه ومصلحته الشخصية والقبلية الانانية ومن يراقبك بداعِ الحفاظ على مصلحتك الشخصية كمهمة عامة تقع على الدولة تجاه كل افراد الشعب ،،
بل ان ثمة فرق واضح وجلي وكبير بين من يحكمك ليخدمك وبين من يحكمك ليعدمك أو على الاقل بين من يحكمك ليخدمك وبين من يحكمك لتخدمه ..
ولعل في هذه الفروق وحدها مايكفي للحكم ببطلان تلك المقارنة الافتراضية الظالمة التي أقامها الدكتور المقالح في المقال السالف ذكره بقصد المساواة بين تنصت الحكومات الغربية من جهة وبين تنصت الحكومات العربية من جهة مقابلة على شعوبها ،،،وكأنه بذلك اراد أيضاً ان يساوي بين هذه الشعوب في الاثر والنتيجة بعد ان ساوى بين الانظمة في الاسباب والدوافع التي ادت اليها ... رغم أن ذلك لايمكن ان يتحقق أبداً لا بين الانظمة ولا بين الشعوب حتى وإن استقامت شؤننا وصلحت انظمتنا كعرب في آخر المطاف فإننا وحتى نصل الى النقطة التي وصلوا اليها اليوم على طريق التقدم والتطور والنهوض سيكونوا قد قطعوا ضعف هذه المسافة التي تفصلنا عنهم الان وسبقونا الى محطة اخرى على ذات هذا الطريق وفي نفس الإتجاه الذي يسيرون صوبه بخطى حثيثة ومتسارعة ,