ما تشهده المحافظات الشمالية والمحافظات الجنوبية من احداث مؤسف للغاية , فان يقتتل ابناء الوطن الواحد فلا يعني ذلك الا ان صورا من الظلم ومن التسلط قد مورست بشكل واسع في هذا الوطن , و هي ما يولّد ردود الافعال العالية والمؤسفة هذه , وبالطبع لا تقوم صور الظلم والتسلط بشكلها الواسع هذا الا مع " اللادولة " .
مفهوم " اللادولة " لا يعني في الغالب عدم وجود كيان يحمل اسم " دولة " , ولكنه يعني ان هذا الكيان يقوم بتصرفات لا تنسجم مع مفهوم الدولة , فتصرفات الدولة هي تلك التصرفات المحققة والحامية للمصلحة العامة , وعندما يتصرف الكيان المسمى " دولة " التصرفات التي تحقق المصلحة العامة يكون هناك دولة , اما اذا كانت التصرفات التي يقوم بها تحقق المصلحة الخاصة سواء لفرد او لكيان او لبعض الكيانات في المجتمع فما يكون هناك هو " اللادولة " .
على مدى عقود ومن يشغلون مواقع السلطة في " الدولة " يمارسون الكثير من الممارسات الغير منسجمة مع مفهوم " الدولة " , بل ويتصرفون باسمها ومن خلال السلطة التي تمنحها لهم مواقعهم الوظيفية فيها تصرفات معاكسة تماما لما هو مفترض بها , وهذا الامر هو ما ضرب مفهوم " الدولة " في اذهان الكثير من فئات المجتمع والتي بدأت تتعامل مع كيان الدولة باعتباره كيانا عصابيا ليس له حق في السيادة عليها .
في ذات الوقت كان من يشغلون مواقع السلطة هولاء يعملون على الزام فئات المجتمع بقبول ما يقومون به من التصرفات , ويعتبرون ان رفضها او عدم الامتثال لها هو تمرد على " الدولة " وبالتالي وصلوا الى استخدم اسلوب الفرض بالقوة في وجه كل من يرفض او لا يمتثل , وهو ما ولّد ردود الافعال التي نشاهدها اليوم من مواجهة القوة بالقوة .
ما يفرق بين الاحداث التي تشهدها حاليا محافظات الجنوب وتلك التي تشهدها محافظات الشمال هو ان في الجنوب لازالت قوى النفوذ تدخل في المواجهات متدثرة بلحاف الدولة ومن يشاهدها دون تمعن ينظر اليها كصدام بين الدولة وبين فئات من المجتمع , بينما في الشمال قد تطورت وظهرت بوجهها الحقيقي الذي نشاهده من صدام " مباشر " بين القوى التي تعوّدت ان تتحكم في الدولة لدرجه انها تصورت انها هي الدولة وبين فئات من المجتمع , وما تجتمع فيه فئات المجتمع هذه هو رفضها لنوعية الحكم التي أديّرت به البلد في العقود الماضية .
جوهر المشكلة في البلد و التي لها صور متعددة من اختلالات امنية وتدهور اقتصاد ونحو ذلك ووصولا الى ذروة الاختلالات المتمثل في المواجهات المسلحة بين ابناء الوطن الواحد هو " اللادولة " , ويخطئ كل من يتصور انه يمكن ان تحل هذه المشكلات دون ان توجد في البلد الدولة التي تتصرف التصرفات المفترضة بها كدولة , لا ان تُخترق من قوى نفوذ تسخرها تبعا لرغباتها وبما يحقق مصالحها كما كان عليه حال " الدولة " في العقود الماضية و لازال سائدا بقدر كبير حتى الان .
لا يمكن ان يشهد البلد استقرارا على الاطلاق مالم تقم فيه " الدولة " , وهذا الامر يجب ان تعيّه قوى النفوذ قبل غيرها من القوى , لأنها وعلى مدى عقود قد استنفذت رصيد الاستجابة والانصياع لتصرفاتها باعتبارها صادرة عمن يشغلون مواقع الدولة او من يتصرفون فيها , وقد ارتسمت تماما الصورة العصابية لها في اذهان المجتمع , وبالتالي لم يعد من الممكن لقوى النفوذ ان تنفرد بالقرار وبالتحكم في البلد حتى ولو ضل كيان " الدولة " مختطف من قبلها لأنه اصبح كيان " للادولة " وهكذا يتم النظر اليه من فئات المجتمع , وفي ضوء هذه النظرة ستكون ردود افعال المجتمع تجاه هذا الكيان . و مالم تعي قوى النفوذ هذه الحقيقة فهي في كل يوم ستفقد المزيد من سيطرتها ومن قوتها وصولا الى اضمحلالها واتاحة الفرصة لبناء " الدولة " .
قوى النفوذ مطلوب منها الان ان تتعاطى مع الواقع الجديد الذي هي فيه قوى ضمن قوى اخرى ولم تعد هي القوة الوحيدة ولا حتى الاوسع , وعليها ان تعمل على تقديم التنازلات المطلوبة منها طوعا , وان تمتنع عن اعاقة سير البلد في اتجاه " الدولة " بافتعال المشاكل والازمات هنا وهناك , وان تتوقف عن محاولة الاستمرار في اختطافها لكيانها , وان تتقبل القوى الاخرى في البلد و تتنافس معهما التنافس السياسي فقط وتتشارك معها بصدق في بناء الدولة المتوازنة التي تعمل لتحقيق و لحفظ مصالح الجميع .
اما غير ذلك فقوى النفوذ هي من سيخسر في النهاية , " فالدولة " هي الوضع الطبيعي واختطافها هو وضع استثنائي , ولابد للطبيعي ان يتجسد طالما هناك من يطلبه , والقوى الغير ممثله او نافذة في الدولة هي الان من يطلبه وقوى النفوذ هي من يمنع حصوله , ولابد ان تتجسد اراده من يطلبون الوضع الطبيعي على ارادة من يعيقونه وكلها مسألة وقت .
فليوفر الجميع الزمن ويحدوا من التضحيات التي سيتحملها البلد وكل مكوناته , وليبدؤوا شراكة وطنية حقيقية تسعى لبناء " الدولة " التي تحقق وتحافظ على المصلحة العامة للجميع .