يحتل البعد الاقتصادي في الصراع الدولي مع تنظيم داعش، مكانة جوهرية في الجهود العالمية للقضاء على "التنظيم"، لكن هذا البعد على أهميته يمثل تحديا معقدا للمجتمع الدولي.
وترتبط تلك القضية بمعرفة طبيعة الموارد المالية "للتنظيم" وحجمها وقيمتها بهدف استهدافها، وبنجاح أجهزة الاستخبارات العالمية في جمع معلومات صحيحة ودقيقة عن القيادات المالية "للتنظيم" والمسؤولة عن إدارة الشبكة المالية له ومنهجها في إدارتها وسبل الحفاظ على سريتها.
ويؤكد مختصون غربيون تصاعد الصعوبات المالية لدى "داعش" في المناطق المسيطر عليها في سورية والعراق، فرغم أن التنظيم يجني نحو 80 مليون دولار شهريا من مصادر تمويلية مختلفة وفقا لتقرير منظمة "أي إتش إس" للمراقبة والتحليل الاقتصادي، إلا أنه عاجز عن مواءمة ميزانيته، وهو ما دفعه أخيرا إلى خفض مرتبات المسلحين التابعين له، وزيادة أسعار الكهرباء وعديد من الخدمات الضرورية الأخرى، إضافة إلى فرض ضرائب جديدة على القطاع الزراعي.
وأوضحوا أن الدلائل تشير إلى أن محاصرة التنظيم ماليا بدأت تؤتي أُكلها خصوصا في عرقلة تصديره النفط واتخاذ إجراءات أكثر صرامة تمنعه من التعامل مع الآثار المهربة من المناطق التي يسيطر عليها.
وقال لـ "الاقتصادية"، بروس كلارك الصحفي الإيرلندي المتخصص في شؤون الجماعات الإرهابية، إن التقرير الأخير لمنظمة "أي إتش إس" يشير إلى نقطة مهمة فيما يتعلق بقدرات "داعش" المالية، فـ 50 في المائة من موارده تأتي من الضرائب التي تبلغ 20 في المائة على الأنشطة الاقتصادية والتجارية في المناطق التي يسيطر عليها، ولإضعاف ذلك لا بد من استهداف الإنتاج الزراعي أو الحيواني في المناطق التي يسيطر عليها.
ويكشف كلارك أن اعتماد التنظيم على الضرائب المحلية يدلل على فساد الحجج التي تروج لها بعض وسائل الإعلام الغربية، المرتبطة بدوائر إقليمية ودولية تناصب بعض البلدان العربية العداء، وتحملها مسؤولية تمويل "داعش" عبر تبرعات مالية فردية لبعض رجال الأعمال.
وأوضح لـ "الاقتصادية"، جون كيلي المختص المصرفي، أنه يكاد يكون من المستحيل حاليا القيام بتحويلات مالية مصرفية ذات طابع دولي لدعم الإرهاب أو المنظمات الإرهابية، فالنظام المصرفي العالمي مراقب بدقة، مشيرا إلى أن بعض الدول التي لا يرتبط نظامها البنكي بالنظام المصرفي الدولي مثل إيران يمكن القيام بتحويلات مصرفية لبعض المنظمات المسجلة على قائمة المنظمات الإرهابية العالمية مثل "حزب الله" دون أن يتمكن المجتمع الدولي من رصدها.
ويرصد المختصون ستة مصادر أساسية للدخل بالنسبة إلى "داعش" الإرهابي وهي الضرائب، وعائدات بيع النفط وتقدر مساهمته بنحو 43 في المائة، وعمليات تهريب المخدرات، والآثار، إضافة إلى مصادرة الأراضي والممتلكات والعوائد التي يحققها من الجرائم إضافة إلى إدارة أنشطة تجارية خاصة به.
وعلى الرغم من أن البند الأخير المتعلق بالأنشطة التجارية والاقتصادية الخاصة بالتنظيم لا تزال مساهمته الكلية محدودة ضمن إجمالي العوائد المالية له، إلا أن بعض المختصين الأمنيين في مجال مكافحة الإرهاب يعتبرونه مصدرا شديد الخطورة لسريته والغموض المحيط به وارتباطه بشكل مباشر بعدد محدود للغاية من قيادة "التنظيم".
وقال لـ "الاقتصادية"، فنسينت هاميل الباحث في العلوم الأمنية، "إن القلق الأكبر ينبع من عدم توفر معلومات موثوق بها بشأن طبيعة وأماكن الأنشطة التجارية الخاصة التي يقوم بها تنظيم داعش، ومن ثم يمكن أن تكون له أنشطة اقتصادية في بعض البلدان الإفريقية أو أمريكا اللاتينية، وهذه المشاريع يمكن أن تكون عوائدها الاقتصادية هي الممول الأساسي للعمليات الإرهابية التي يقوم بها في أي منطقة في العالم.
ويعتقد هاميل أن طبيعة تلك الأنشطة التجارية يمكن أن تصب في مجالات أكثر خطورة من النشاط القائم بالفعل، ويتحول إلى سند "للتنظيم" في عملياته، فعلى سبيل المثال يمكن أن يكون لـ "داعش" أنشطة اقتصادية في مجال الكيماويات في جنوب شرق آسيا مثلا، وليس بالضرورة أن يكون ما يحققه عوائد مالية إنما خبرات فنية وتقنية تساعده على تطوير قدراته التسليحية وإصابة خصومه بمزيد من الضرر. ووسط هذه المصادر المتنوعة تظل تجارة النفط تحتل أهمية خاصة داخل المنظومة المالية لـ "داعش"، وخلال كلمة لـ آدم شوبين، القائم بأعمال وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لشؤون الإرهاب والتمويل الاستخباراتي، في معهد "شاتام هاوس" في العاصمة البريطانية لندن، قال "إن الجزء الأكبر من النفط الذي يسيطر عليه التنظيم يذهب إلى الأسد ويستهلك جزءا آخر في المناطق الخاضعة له بينما يذهب جزء آخر عبر المناطق الكردية إلى تركيا، وقدر حجم المكاسب التي حققها "التنظيم" من بيع النفط بنحو نصف مليار دولار".
ومع هذا يظل النفط أكثر مصادر تمويل "داعش" "سهولة للاقتناص" فقد كثفت قوات التحالف الدولي من غاراتها على آبار النفط التي يسيطر عليها، كما قامت تركيا أخيرا بتشديد إجراءاتها الرقابية لضمان عدم تهريب النفط إلى أراضيها.
ويرى المختصون أن تنظيم داعش، ومع تراجع العائدات التي يحققها من بيع النفط، ومحدودية القدرة على زيادة عائداته المالية من الضرائب المحلية، نظرا لما يمكن أن يسفر عن ذلك من خلق بيئة داخلية أكثر عداء، ويؤجج المشاعر المناهضة "للتنظيم" في المناطق التي يسيطر عليها، فإنه من المؤكد أنه سيبحث عن مصادر أخرى للتمويل أو يزيد من اعتماده على بعض المصادر التي يعول عليها حاليا، لكنها لا تحتل مقدمة مصادر التمويل وتحديدا تجارة المخدرات والآثار.
ويعتقد مختصون أمنيون أن تجارة المخدرات وتهريب الآثار سيتصاعد دورها في المرحلة المقبلة في تمويل "داعش"، ويقول لـ "الاقتصادية"، مارتن لوجان المختص الأمني السابق، "إن "داعش" يسيطر على مناطق شاسعة من سورية والعراق، وتلك المناطق تضم مخزونا حضاريا ضخما لعديد من الحضارات السابقة".
ولاحظ لوجان أن "داعش" منذ سيطرته على تلك المناطق، قام بشكل متعمد وممنهج بتدمير الإرث الحضاري في تلك المنطقة، ويبدو ذلك غريبا بعض الشيء، لأنه وفقا لليونسكو فإن تلك المناطق تدخل ضمن المناطق المحرم دوليا قصفها، لما تمثله من إرث إنساني وحضاري، وبإمكان "التنظيم" أن يستخدمها لتدريب مسلحيه أو تخزين الأسلحة فيها، لكنه على الرغم من ذلك قرر تدميرها، والنتيجة أن أسعار قطع الآثار التي تعود إلى حضارات المناطق التي يسيطر عليها ارتفعت بشدة في سوق الآثار المهربة والمبيعة بطرق غير شرعية بما يراوح بين 15-10 ضعفا، ومن ثم فإن عائد مبيعات تهريب الآثار "للتنظيم" ارتفع، وهذا يصب في مصلحته ماليا بالدرجة الأولى.
وأضاف لوجان أن "الآثار أيضا يسهل تهريبها مقارنة بالنفط أو المخدرات، وخلال الفترة السابقة فإن الأسواق الأوروبية احتلت الدرجة الأولى من اهتمام "التنظيم"، لكن مجموعة الإجراءات التي اتخذت من قبل الاتحاد الأوروبي بات يصعب بمقتضاها أن يواصل "التنظيم" اعتماده على الأسواق الأوروبية".
وأشار لوجان إلى وجود متابعة دقيقة الآن لبلدان وسط آسيا، ليس باعتبارها سوقا نهائية للآثار المهربة من "داعش"، إنما باعتبارها محطة انتقالية، تذهب بعدها الآثار إلى السوق الصينية التي يشهد الطلب فيها على قطع الآثار زيادة ملحوظة، إضافة إلى أسواق اليابان وكوريا الجنوبية، كما أن وجود عدد كبير من سكان أمريكا الجنوبية من أصول سورية يجعل أيضا بلدانا مثل البرازيل والأرجنتين أسواقا محتملة للآثار المهربة من "داعش".
ورغم غياب تقديرات مؤكدة بشأن مدى مساهمة تجارة المخدرات في إجمالي ميزانية تنظيم داعش، إلا أن مختصي مكافحة الإرهاب يرجحون أن يتحول الأمر إلى بند متصاعد الأهمية في ميزانية "داعش" كلما زاد القصف الدولي على آبار النفط التي استولى عليها "التنظيم".
ويعتقد المختصون أن استراتيجية "التنظيم" في المرحلة المقبلة، لن تقف عند حدود الاستفادة من العوائد المالية التي تحققها تجارة المخدرات، التي تهرب إلى أوروبا عن طريق شبكات تهريب يشارك فيها بعض الأكراد، لكن الأكثر خطورة أن تجارة المخدرات يمكن أن تسهم في تغيير البنية الاجتماعية لسكان المنطقة وتجعلهم أكثر ارتباطا ودعما لـ "داعش" إذا ما عادت عليهم بفائدة مالية، وهو ما يضيف مزيدا من العراقيل أمام المجتمع الدولي في صراعه المالي مع "التنظيم".
وقال لـ "الاقتصادية"، كين لوجان المختص الأمني السابق والباحث في مجال منظمات العنف السياسي، "إن "داعش" ليس تنظيماً إرهابيا بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، فهو يختلف عن تنظيم القاعدة وحتى عن المنظمات الإرهابية في أمريكا اللاتينية أو أوروبا، لأنه يسيطر على مساحة ضخمة من الأرض، ويخضع لسطوته بشكل مباشر قطاع واسع من السكان، ومن ثم هو لا يعتمد في إدارة عملياته على المساعدات أو التبرعات من الأنصار في الخارج".
ويعتقد لوجان أن أقرب نموذج لـ "داعش" هو "حزب الله" اللبناني، لكنه يمثل دولة داخل الدولة، فلا يستطيع مثلا فرض ضرائب بشكل مباشر، لكن يستطيع إجبار رجال الأعمال والسكان في المناطق التي يسيطر عليها من إمداده بالمال، وقد تكون النتيجة واحدة في نهاية المطاف بين "داعش" و"حزب الله".
وأشار لوجان إلى أن "التنظيم" سيطر على ما يراوح بين 60-70 في المائة من النفط السوري، وحصل على معدات هندسية مهمة إثر استيلائه على الموصل، وقبل تكثيف القصف الدولي على آبار النفط حقق يوميا ما يراوح بين مليون وثلاثة ملايين دولار من بيع النفط بأقل من أسعاره الدولية من نظام الأسد.
يذكر أن الولايات المتحدة التي تقود التحالف الدولي ضد "التنظيم" تمكنت من استهداف أشخاص محددين يعتبرون قادة الجناح المالي لـ "داعش"، فإعلان المتحدث باسم الجيش الأمريكي أن قوات التحالف الدولي نجحت في قتل موفق مصطفى محمد الكرموش المكنى بأبو صلاح، المسؤول المالي أو وزير مالية "التنظيم"، يعتبر في نظر بعض المختصين ضربة مؤلمة للقدرات المالية لـ "داعش".
الكرموش العراقي الجنسية من مواليد عام 1973، لا يعد فقط أحد أكثر أعضاء "التنظيم" خبرة في معرفة خبايا الشبكة المالية السرية والمعقدة "للتنظيم"، لكنه بمثابة "الصندوق الأسود" أو "صندوق الأسرار" لمصادر التمويل والصفقات التي يقوم بها لبيع النفط سواء عبر تركيا أو إلى نظام بشار الأسد، وقد نجح الرجل في إقامة شبكة من العلاقات الوثيقة لبيع النفط لدمشق.
ولكن إلى أي مدى يمكن أن يؤثر مقتله في الوضع المالي للتنظيم؟
ديفيد جارلند الباحث في مجال مكافحة الإرهاب يعتقد أن مقتل شخص واحد مهما كانت أهميته في "داعش" ليس معناه أن "التنظيم" سينهار ماليا، ولكن يمكن القول إن مقتله يجعل الشبكة التي أقامها "التنظيم" ببيع النفط إلى دمشق وتهريبه في مهب الريح، إذ لا يكفي أن يحل "داعشي" جديد محل الكرموش حتى تستمر صفقات بيع النفط لبشار الأسد أو تهريبها عبر تركيا، فالعلاقات الشخصية والخاصة تقوم بدور محوري ولا توجد عقود أو محاكم يمكن اللجوء إليها إذا أخل أحد الطرفين بالتزاماته.
وأضاف جارلند لـ "الاقتصادية"، أن "عملية قتل كبار المسؤولين الماليين في "التنظيم"، تتماشى تماما مع الاستراتيجية الأمريكية الراهنة، التي تعمل في جوهرها في تلك المرحلة على الحد من نمو "التنظيم" وإضعافه على أمل أن يتم القضاء عليه مستقبلا عندما تتغير الظروف الإقليمية".