الرئيسية - تقارير - حكاية صحفي يمني في سجون الحوثيين

حكاية صحفي يمني في سجون الحوثيين

الساعة 06:32 مساءً (هنا عدن -خاص)

ولُفـّت بشيلان قديمة لجعلها متكئاً في مقيل العصر ، يقوم بمهام الخدمة اليومية لكل زنزانة شخص يدعى "طـُلبة" وهو وصف شائع هنا يعني "الخادم" ، في مقابل السماح له بالأكل والشرب وتناول القات والنوم كأحد أفراد الزنزانة ، الحياة رخيصة جداً بداخل السجن ، اشترى "الطلبة" شالا لمتكئي بمئتي ريال ما يُــعادل دولاراً واحداً فقط ، الدجاجة المسلوقة تباع بدولارين !، و كأس الشاي بعشرين ريال ، إنها الجنة !.
- تتكدس زنزانتي كل يوم بعشرات المخزنين الذين تعودوا سماع حكاياتي عن أسفاري ، ومواقفي ونوادر الحياة وقضايا السياسة وتعقيدات الوضع المحلي الراهن ، أراهم ينصتون متفاعلين ، أقرأ عليهم مقالاتي الجديدة التي أدونها في دفاتري ، واسمعهم يضحكون لذكر اسمائهم ، ويسألون متى تنشر هذه المقالات السردية ؟ ، وأعدهم أن يحتويها كتاب أنيق عن تفاصيل السجن وأيامه ولياليه الملأى بالصراصير والألعاب والصلوات !.
- هنا تتعلم كيف تبتسم لاقتراب يوم اعدامك ! ، فبعد صلاة الجمعة الرابعة تحدث خطيب السجن "ابراهيم" عن فضائل العفو والتسامح ، ليقول لنا أن "هيثم" الجالس بيننا سيساق بعد يومين الى ساحة الاعدام ويرجو من له حق أو مظلمة أن يقتصها منه الان !، قام السجناء المصلون يعانقونه، وارتفع صوتي بينهم "الله يسامحه" وذهبت اليه ممازحاً : لا أعرفك ، لكني اسامحك ! ، عانقته بود .. كان مبتسماً ومشرقاً وعلى جبينه زبيبة السجود ، وقد سمعت أنه يحفظ القرآن عن ظهر قلب ، و السجناء يحتشدون حوله يودعونه كمن يغادر الى الحج ! .
- سُـجن "هيثم" قبل ست سنوات بتهمة القتل واصدر قاضي التنفيذ حكماً بإعدامه ، عمر طويل من الانتظار والتقاضي انتهت بتأكيد اعدامه رمياً بالرصاص ، فيما تغلبنا أمانينا بالعفو عنه من أولياء الدم ، وقد احتشد كثيرون بداخل زنزانتي في عصر تلك الجمعة للمقيل معه ، راقبته .. وسألت نفسي ، بمَ يشعر الان ؟ هل يرتجف ؟ إن الذين يجلسون معه ويخزنون ويضحكون يتصرفون على أنه عريس يزف الى عروسه ! ، احدهم يلمز قائلاً : اللي بعده ! ، كناية عن استعداد المحكوم بالقصاص لرصاص الموت ، تحدثوا ضاحكين عن اسم الميت القادم وكأنهم يتحدثون عن لقاء عاشقين ! ، لقد تعودوا توديع رفاقهم الى العالم الآخر ، يترقبون صوت رصاص الاعدام ، فإن كانت ، غضبوا قليلاً و انتهى الأمر باستمرار حياتهم المحاصرة بالأسوار والوجوه المكررة .، وفي مقيل العصر يتفاكهون ويحددون من التالي ! ، كانت فرائصي ترتعد إذا عرفت أن وفداً حوثياً جاء إلى السجن لأمر ما ، أخشى أن يأخذوني إلى حيث لا يراني أحد ، وهؤلاء يضحكون عشية إعدامهم !  يا لبأسهم ! .
 - كانوا أمامي يلعبون الورق ، وأحجار الدمنة ، بعضهم يُصلي و آخرون يتلون قرآن الله ، وأنا انصت لصوت أنثى من السماء ، إسمها "لينا شاماميان" تغرد بموشح أندلسي مُـسكر .. وفي فمي قات تخمر ، صرت ثملاً و على يدي قلمٌ أحمر وأوراق، أكتب خواطر السجن والمساء .. أدون النقاط وتفاصيل اليوم و الاشخاص والاسماء .. اكتب كل شئ .. ثم أنام.

-  هواء السجن رطبٌ بارد ، ورائحته قوية ، الأرضية حجرية ، وحولي 36 قاتلاً ، يا للروعة ! ، كثيرٌ منهم ينتظرون تنفيذ القصاص ، أربعة أعدمهم السياف "حيد أبوه" الذي قال : إنه من قرية تجاور قريتنا ، كان يعدم أصدقائه ! ، يتناول القات معهم في أوان العصر إلى المساء ، ويستيقظ في الصباح سعيداً ومتحمساً بدم جديد يريقه بأمر القضاء ، وبجواره أسرة المجني عليه تنتظر خروج الجاني لإعدامه ، وتتدخل الوساطات وفاعلو الخير للعفو عنه ، لم يعد أحدٌ ممن خرجوا حياً ، قُتلوا أمام عيني ، وكنت أراقب من شباك السجن مفاوضات العفو ، ورجاء الوساطات المحلية ، وأشيح بوجهي ، ثم أسمع صوت ثلاث رصاصات وأحياناً أربع ، كنت ضعيفاً جداً ، المزيد من التهديدات الطائشة تصل إلى غرفتي ، جنّـد الحوثيون عدداً من السجناء ينقلون إليهم أخباري . العزي هكري ، وعلي المرامي القاتلان الخطيران هما عين الحوثيين عليّ ، اكتشفت ذلك بالصدفة ، كانا يراقبان زياراتي ، وأحاديثي مع السجناء ، وتصرفاتي ، وكل شيء  ، وفجأة أصيب " دشيلة" بإنهيار مفاجئ في حالته الصحية ، تقيأ كل شيء في جوفه ، وعلى الفور اتصلت بعمي الطبيب ،شرحت له أعراض حالته ، فأرسل على دراجة نارية بعض الأدوية الإسعافية اللازمة للتخفيف عنه ، ولكن حالته ساءت ، وأسعف إلى المشفى العام بالمدنية وسط حراسة مكثفة ، فأشاع الحوثيون أني قمت بتسميمه ،وجاءت النيابة إلى السجن برفقة أطباء متخصصين ، فحصوا الأدوية التي أعطيته إياها ، وتأكدوا من سلامتها ، وخابت مكيدة الحوثيين في إلصاق تهمة جديدة لي بالقتل غير العمد، أرادوا إبقائي سجيناً بالقدر الذي يجعلني قتيلاً بأي طريقة ، ويمحو من أذهان الناس اسمي ؛ لتغيب مع تراكم الحياة البائسة أصوات المدافعين عنيّ .
-   بعد مغادرة "دشيله"من الزنزانة إلى المشفى الخارجي عُـدت إلى زنزانته رئيساً لها  ومسؤولاً كالآغا عمن بداخلها من السجناء ، أقوم برعايتهم والاهتمام بهم ، ورثت عن "دشيلة" سريره الحديدي وعصا الخيزران التي يُعاقِب بها من يتلفظ خارج حدود الأدب ، كانوا يطلقون عليّ لقب (العم) ، ونضحك وأنا أعاقبهم ، لم أكن صارماً كسلفي الشهم ، تقاسمت كل عطايا الزائرين وهداياهم مع سجناء الزنزانة النبلاء ، وضعت نظاماً صارماً للصلاة والأكل والنظافة وتعريض فُرُشنا للشمس مرتين في الأسبوع ، كانت الوجبة التي يقدمها السجن تافهة ومقرفة كعادتها ، وكانوا يسعدون بما أقاسمهم من الطعام الذي ترسله إليّ عائلتي ، لاسيما الغداء المكون من : لحم وأرز وخبز أسمر وفتة بالعسل ، وكانت "بنت الصحن" كيوم الجمعة مرة واحدة في الأسبوع ، وكنت أُبقي على فتة العسل إلى ما بعد القات ، مع نصف ثلاجة شاي بالحليب والزر والهيل ! .
-        كُـنا نتمترس بعد صلاة العشاء فوق سريري الجديد ، كأيام "دشيلة" الرائع : مصطفى الوادعي ،محمد نهشل ،منير حفظ الله و(البيزنطي) ، البريء كفيلٍ ودود في الأدغال ، وإذا رفت الساعة السليمانية على أجفاننا ، كان خدر القات داعياً للصمت والإنشغال بما في أيدينا ، أحضرت روزنامة ورق ، قلم ، أكتب كل يوم مقالاً تقريباً ، ثم أدفعها إلى أخي الذي يتولى طباعتها وإرسالها إلى زملائي في المواقع الإليكترونية ، حتى تمكنت من إدخال هاتفي خِلسة كبقية السجناء بعد مرور 38 يوماً على سجني ، كتبت في ذلك اليوم منشوراً على صفحتي في فيس بوك وتويتر مُـعلناً ظهوري بع تلك الأيام الطويلة من الغياب القسري .
- مات "دشيلة" الطيب بعد خمسة أشهر من المعاناة ، وسبب وفاته غامض ، يقول أحد أصدقائه : إنه أصيب بجلطة دماغية ، وقبل خروجي من السجن بأيام ذهبت إلى زيارته في عيادة السجن الطبية _ وهي مبنى مهجور ومعزول عن السجن العام ، وفارغ من أي أدوية أو معدات _ كان المسكين جالساً يهذي ويتحدث بكلمات غير مفهومة ، وكلما حاول أن يتذكر اسمي يضغط على رأسه بأصابعه ، ويقول : أنت الأستاذ ! الأستاذ ، ثم يصمت ويمتد على فراشة ، كان يغمره إجهاد العائد من سفر طويل ، أسند رأسه إلى جدار الغرفة ، وأغمض عينيه ، خرجنا من غرفته وقد قرأنا الفاتحة سبيلاً لشفائه.  



– خرج صاحبي المسجون مذ 13 عاماً "حسان غوقان" ، وكنت أخبرتُ فاعل خير يدفع عنه دية القتيل الذي قتله ، خرج قبل أسبوعين من إطلاق سراحي ، وقبل انحسار الشمس ، كنت واقفاً على باحة السجن .. اراقبه مبتسماً ، يتعثر أمامي في خطواته نحو البوابة الحمراء .. يرتجف ، ويسألني : كيف تكون ذمار ؟ إلى أين وصل الاسفلت ؟، وفي الصباح عاد الينا بفطور والدته !، يضحك كمخلوق جديد و يرقص أمام جنود السجن و يتحداهم ضاحكاً : لن أدخل الى زنزانتي ، ويُخرج لسانه الطويل .. فيضحكون ونضحك ! .

.. يتبع

نقلاً عن جريدة #الجزيرة السعودية 
#سام_الغباري