في الساعة السادسة بتوقيت نيويورك في السادس من أكتوبر/تشرين الأول فوجئ وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر(1923-2023) بمساعده جوزيف سيسكو يقف إلى جوار سريره بغرفته في جناحه الفخم بفندق والدورف أستوريا محاولا إيقاظه، تراجع عن معاتبته وهو الذي لم يخلد إلى النوم إلا قبل ساعتين، حين عاجله بما يشبه رسالة استغاثة من رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير عن حرب ستندلع خلال ساعات في الشرق الأوسط في إشارة إلى حرب أكتوبر/تشرين الأول.
دهش كيسنجر من مضمون البرقية التي قدمها له سيسكو، واندفعت الأسئلة إلى رأسه مرة احدة، كيف لوزير الخارجية الأميركي ألا يعلم بالنوايا المصرية والسورية بشكل دقيق؟ ولماذا لم ترد أي تقارير من المخابرات المركزية أو الأمن القومي أو الاستخبارات العسكرية أو حتى الموساد عن الهجوم المصري والسوري المنسق؟ وكيف استطاعت سوريا ومصر أن تنجحا في تحقيق هذه المفاجأة الإستراتيجية؟
بدأ مهندس الدبلوماسية الأميركية في تجميع العناصر في رأسه، وهو يرتدي ملابسه على عجل بمساعدة سيسكو، وتوصل إلى نتيجة جعلته يشعر بنشوة داخلية، لقد جاءته اللحظة المناسبة التي سيكرس فيها نفسه أسطورة دبلوماسية بلا منازع ولذلك ينبغي أن يمسك بكل خيوط اللعبة في هذه الحرب وما بعدها بإتقان.
كان هنري كيسنجر محظوظا دبلوماسيا حين تسلم حقيبة الخارجية الأميركية قبل نحو 3 أسابيع من حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بين العرب وإسرائيل. وكان من سوء حظ العرب أن يتسلم واحدا من أشد الموالين لإسرائيل زمام وزارة الخارجية الأميركية خلفا لغريمه وليام روجرز (1913-2001)، الذي كان رجلا ضعيفا وفق تقديره.
جاء "ساحر فيتنام" وعراب الاتفاق مع الصين تماما في اللحظة التي أرادها وفي الوقت الذي اندلعت فيه الحرب في الشرق الأوسط، ليطبق نظريته بأنه لا يقترب من القضايا الدولية إلا إذا كانت ساخنة إلى حد ينضج الحلول التي يقترحها، وكان له ما أراد.
تذكر كيسنجر، وهو يعبر مستعجلا البهو المؤدي إلى مكتبه في الفندق، مراسلات مصرية كانت تأتيه وهو رئيس مجلس الأمن القومي عبر قناة سرية من مستشار الرئيس السادات للأمن القومي حافظ إسماعيل، ولم يعرها اهتماما كبيرا في حينها، ولم يكن يريد الاقتراب من ملف الشرق الأوسط، الذي يتولاه وزير الخارجية وليام روجرز، ولشكوك تعتريه في كونه الشخص المناسب للخوض في متاهات الصراع العربي الإسرائيلي الشائك، وهو الرجل اليهودي.
كان الفتى هنري كيسنجر قد وصل إلى نيويورك عام 1938 قادما من مدينة فويرث الألمانية مع عائلته اليهودية التي هربت من الاضطهاد النازي، وحصل على الجنسية الأميركية عام 1943 وخدم مدة 3 سنوات في الجيش الأميركي في شعبة الاستخبارات بألمانيا، ولاحقا دخل جامعة هارفارد المرموقة وحصل على الدكتوراه ليصبح واحدا من أبرز عناصر "مجمع العقول" في الإدارة الأميركية مثل زبنغيو بريجنسكي اليهودي أيضا.
عين الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، هنري كيسنجر في ديسمبر/كانون الأول 1968 كمساعد لشؤون الأمن القومي، ليصبح رئيسا للمجلس من سنة 1969 إلى 1975، ووزيرا للخارجية من سبتمبر/أيلول 1973 إلى يناير/كانون الثاني 1977 وخلال تلك الفترة، كان كيسنجر شخصية شديدة التأثير في إدارة الرئيس نيكسون (1913-1994) الذي استقال على خلفية فضيحة ووترغيت عام 1974 وخلفه جيرالد فورد.
ويشير البروفيسور توماس شوارتز في كتابه "هنري كيسنجر والقوة الأميركية" إلى أن الرئيس نيكسون "أعطى كيسنجر نفوذا كبيرا وعندما مر بتحديات ووترغيت حصل كيسنجر على سلطة استثنائية".
طبق كيسنجر سياسة "بناء الجسور" في تطوير علاقات أميركية أكثر إيجابية مع الاتحاد السوفياتي السابق خلال الحرب الباردة، وساعد في التفاوض على اتفاقية الحد من الأسلحة الإستراتيجية (سالت1) مع الاتحاد السوفياتي، التي وقعت في عام 1972،
وقد أعاد كيسنجر الانفتاح الدبلوماسي الأميركي على بكين، ومهّد الطريق لزيارة ريتشارد نيكسون إلى بكين عام 1972، وفي عام 1973، فاز كيسنجر بجائزة نوبل للسلام بفعل مساهمته في توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى الورطة الأميركية في فيتنام.
كان كيسنجر قارئا نهما للتاريخ والفلسفة، وهو يعتمد على السياقات التاريخية في تفسير أحداث الحاضر وقضاياه الكبرى وقراءة المستقبل عبر القياس والعبرة، وهو يعتقد "أن الحاضر لا يكرر الماضي تماما، ولكنه ينبغي أن يشبهه حتما، وبالتالي يجب أن يكون المستقبل كذلك".
ويرى كيسنجر أنه ينبغي تفكيك القضايا والأزمات الكبرى إلى عناصر وتفاصيل أصغر لفهمها ثم إعادة تركيبها بما يتناسب مع الحقائق الجديدة، وفي هذا السياق ابتدع كيسنجر سياسة "الخطوة خطوة" و"الرحلات المكوكية" التي طبقها في أزمات فيتنام والصين والشرق الأوسط.
وفي الصراع العربي الإسرائيلي، طبق كيسنجر نظرية "التفكيك والتركيب" عبر العمل على تفكيك الجبهات والأواصر العربية، ومنع أي تقارب بين العراق وسوريا وتحييد مصر ودعم إسرائيل المطلق للتفوق على جميع الدول العربية.
وكان يعتبر أن حوار أو مفاوضات مع العالم العربي تتم وفق نظرية "الشيخ والخيمة" و"السوق"، حيث ينبغي أن تقدم نصف السعر المطلوب أو أقل، كما يرى أن القرار النهائي يكون حصريا للشيخ الذي يتصدر الخيمة، وقد طبق ذلك تماما خلال مجريات حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وما بعدها.
كانت المراحل الأولى من الحرب قد اندلعت فعلا عندما بدأ كيسنجر يجري اتصالاته مع الأطراف ذات الصلة من مقر إقامته بفندق وولدوف أستوريا. وفوجئ بحجم الإنجازات التي حققها الجيشان المصري والسوري في الساعات الأولى للحرب واختراق خطي "بارليف" على الجبهة المصرية و"آلون" على الجبهة المصرية، وبحجم الانهيار الذي كانت تشهده إسرائيل في تلك الساعات وفق مذكراته.
وقرر الدبلوماسي العتيد أن يمسك بكل مفاتيح اللعب، فاتصل بوزير الخارجية المصري محمد حسن الزيات معربا له عن تقديراته بأن القتال إذا تواصل فسيؤدي إلى هجوم إسرائيلي مضاد قد ينجر عنه احتلال إسرائيل لأراض جديدة، مقترحا العودة إلى خطوط القتال الأولى (قبل العبور)، وهو ما وصفه الزيات بأنه جنون وحمق" (مذكرات هنري كيسنجر، الجزء الثاني، ترجمة عاطف أحمد عمران ص 475).
كان هدف وزير الخارجية الأميركي هو إنقاذ إسرائيل في تلك اللحظة الحرجة، ومساعدتها على استعادة زمام الأمور وتعديل الموازين العسكرية ووقف أي محاولة لانعقاد جلسة لمجلس الأمن لإقرار إيقاف ووقف النار قبل إتمام إسرائيل التعبئة وبدء الهجوم الإسرائيلي المضاد، ثم ضمان تدفق السلاح النوعي بشكل عاجل إلى إسرائيل، بينها دبابات "إم 60" وصواريخ سايدوندر الحرارية، وقد هاله أن تفقد إسرائيل 500 دبابة و49 طائرة خلال ساعات.
يقول كيسنجر في مذكراته ص 470 "كان علينا كسب الوقت. ومع تقديرنا أن المستقبل إلى جانبنا، فإن الخيارات الأميركية متعددة ولكن بعد أن تكون إسرائيل قد أتمت تعبئتها"، ويضيف أيضا "أوعزتُ إلى ممثلنا في الأمم المتحدة.. لا مجال لإعطاء مجلس الأمن رأيا أو عقد جلسة أو استخدام حق الفيتو" (ص 473)، وكانت غولدا مائير قد طلبت تأجيل انعقاد مجلس الأمن إلى الأربعاء العاشر من أكتوبر/تشرين الأول أو الخميس 11 أكتوبر/تشرين الأول، أي بعد تغيير الموازين العسكرية.
وكان كيسنجر يخمن "أنه خلال يوم أو يومين ستقوم إسرائيل بهجومها المضاد وتقلب الموازين ويصبح العرب على شفا كارثة"، وأقنع الرئيس نيكسون ووزير الدفاع جيمس شليزنجر بإقامة جسر جوي لإمداد إسرائيل بالسلاح، فبدأت طائرات العال (الخطوط الإسرائيلية) المنزوعة الشعار الأميركية تحط في قاعدة فيرجينيا الجوية لتحميل السلاح إلى إسرائيل.
وحسب مذكراته، فقد كان من غير المقبول أن تتعرض إسرائيل للهزيمة حتى وإن أدى ذلك لتدخل أميركي، كما يجب منع العرب بأي حال من تحقيق انتصار مؤثر خصوصا بسلاح سوفياتي، حيث يجب ألا يظهر الاتحاد السوفياتي باعتباره المنقذ الوحيد للعرب وصانع انتصاراتهم.
كما يرى أنه ينبغي تفكيك صورة النصر العربي الذي تحقق في بداية الحرب (العبور) بهزيمة أخرى تفتح المجال لتسويات سلمية تكون بإشراف أميركي كامل، وقد بدأ يستشعرها في رسالة وصفها بالغريبة وصلته من مصر في السابع من أكتوبر/تشرين الأول عبر القناة السرية الموازية (رغم أنه أصبح وزيرا للخارجية) عبر حافظ إسماعيل مستشار الرئيس الراحل أنور السادات للأمن القومي.
يقول كيسنجر في مذكراته (ص474) إنه توقف أمام عبارة "إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات وتوسيع مدى المواجهة"، مشيرا إلى أن تلك الجملة "لا تخلو من تنويه إلى أن مصر غير راغبة في متابعة الأعمال العسكرية ضد إسرائيل أو تحميل الولايات المتحدة المسؤولية عما يحدث"، وكانت وفق رأيه دعوة للولايات المتحدة وله شخصيا للإسهام في مشروع السلام ولعب دور الوسيط.
وكانت مفاتيح الحرب والسلام كلها بدأت تتجمع في يدي كيسنجر، فقد فسح المجال سياسيا وعسكريا لإسرائيل كي تأخذ زمام المبادرة عبر جسر جوي هائل ومستمر، ولاعب الاتحاد السوفياتي في تحديد موعد جلسة منتظرة لمجلس الأمن وأخذ ما يشبه تفويضا من الرئيس أنور السادات للاستئثار بالأزمة. وكان يريد فقط انتصارا إسرائيليا يجعله يفرض الحل الذي يريده، حيث يقول:
ذهبنا لننام مساء اليوم الثالث من الحرب آملين أن تنتهي كسابقتها؛ حرب الأيام الستة لعام 1967".
هنري كيسنجر
تشير مذكرات كيسنجر (ص 496) إلى أنه يتصرف بانحياز كامل لإسرائيل، وبدا كأنه جزء من الدبلوماسية الإسرائيلية، حيث طلب من السفير الإسرائيلي في واشنطن استنفار كل جماعات الضغط الإسرائيلية للضغط على الكونغرس والرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، للموافقة على كل طلبات إسرائيل العسكرية.
وفي المقابل كان "يتلاعب" بالجانب المصري، حين أدرك أن الرئيس الراحل أنور السادات بدأ يضع كل أوراقه في السلة الأميركية من خلال المراسلات المتبادلة بينه وبين الرئيس عبر مستشاره حافظ إسماعيل والتي لم يكن يرد عليها سوى بكلمات إنشائية هدف من خلالها إلى إرباك مصر عسكريا وسياسيا وتشجيعها على الخيار الأميركي ومنح الوقت للجيش الإسرائيلي لتوجيه الضربة للجيش المصري، بما يقلب المعادلات العسكرية والسياسية.
كان كيسنجر حاسما في تغيير موقف الرئيس نيكسون، الذي كان مهموما بذيول فضيحة ووترغيت حيث أمر في 12 أكتوبر/ تشرين الأول بفتح مخازن الأسلحة الأميركية لشحنها إلى إسرائيل قائلا: قل لهم (يقصد وزارة الدفاع) أن يتحركوا بسرعة وبدون حرج وأن يبعثوا حمولاتهم في وضح النهارعلى أي شيء يمكن أن يطير من هنا إلى إسرائيل".
وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول، ظل كيسنجر يماطل ويتلاعب بالجميع لتأخير صدور قرار لمجلس الأمن بوقف إطلاق النار قبل تغيير الوضع العسكري لصالح إسرائيل بناء على طلب غولدا مائير التي استمهلته 24 ساعة أخرى لاسترداد المبادأة.
ساعدت الوقفة التعبوية التي أقرها الرئيس السادات في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول حتى 14 أكتوبر/تشرين الأول والتزام مواقع دفاعية تابعة لإسرائيل، في أخذ زمام المبادرة على الجبهة السورية ثم ترتيب أوضاعها على الجبهة المصرية، ومع بدء تطوير الهجوم المصري رغم معارضة بعض القادة العسكريين تكبدت مصر خسائر كبيرة وأوقف الهجوم.
وكانت طائرة التجسس الأميركية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت "إس آر 71 " قد التقطت صورا لأوضاع الجبهة المصرية، ووصلت تلك الصور إلى كيسنجر، حيث لاحظ كيف دفعت مصر بفرقتي احتياط (المفروض أن تبقيا غرب القناة) لدعم الهجوم الذي فشل، كما اكتشفت الثغرة بين الجيشين الثاني والثالث في منطقة الدفرسوار، وكانت تلك المعطيات التي نقلها كيسنجر لرئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير كافية لكليهما للشروع بتغيير وجهة الحرب، ثم الحديث عن قرار أممي بوقف النار في المواقع.
في مذكراته ص 516 يقول كيسنجر "إن أحسن وضع عسكري مواتٍ للتحرك الدبلوماسي الذي نفكر فيه لما بعد الحرب لا يمكن البدء به ما لم تسترجع إسرائيل جميع ما فقدت حاليا من أراضٍ وتتقدم قليلا إلى الأمام".
كانت غولدا مائير ومعها كيسنجر يسعيان إلى وقف إطلاق النار بعد قيام إسرائيل بهجوم مضاد ثم العبور غربا عبر ثغرة الدفرسوار بين الجيشين الأول والثاني للوصول إلى غرب القناة، بما يفرز حقائق عسكرية وسياسية جديدة يمكن من خلالها الضغط على الرئيس أنور السادات، وفي الوقت نفسه لنزع صورة العبور والنصر الإستراتيجي الذي حققه العرب حتى 14 أكتوبر/تشرين الأول.
ومع بدء الهجوم الإسرائيلي المضاد، فوجئ كيسنجر برسالة من حافظ إسماعيل التي لم يأت فيها على ذكر الجسر الجوي الأميركي الهائل لصالح إسرائيل ويطلب بعدم السماح لأي طرف آخر للتكلم باسمها مع تلقي دعوة شخصية من الرئيس السادات أدهشته لزيارة مصر (ص 562).
يقول كيسنجر في مذكراته (ص 563) "إن السادات كان على علم بأننا نفعل كل شيء لإفشال مخططاته العسكرية وكان باستطاعته أن يتخذ من الجسر الجوي الذي نقيمه ذريعة يبرر بها الهزيمة التي وصل إليها هجومه في سيناء، أضف إلى ذلك إمكانية تأليب العالم العربي كله ضدنا مثل ما فعل عبد الناصر عام 1967، غير أن إراقة الدماء ولأسباب تافهة قد أتعبت السادات وأخذت الرغبة تدفعه إلى التخلي عن المواقف المسرحية مستعيضا عنها بإنجازات واقعية".
وكان وزير الخارجية الأميركي على اتصال مستمر بغولدا مائير بعد بدء الجيش الإسرائيلي التدفق إلى غرب القناة لكسب المزيد من الوقت، وقد تلقى دعوة لزيارة موسكو فقبلها لأنها ستعطي مهلة 48 ساعة للجيش الإسرائيلي لتحقيق مزيد من المكاسب غربا، وكان الرئيس السادات محرجا من احتلال إسرائيل أراضي جيدة غرب القناة وسعيها لمحاصرة الجيش الثالث، ويستعجل اتفاقا لوقف إطلاق النار.
وتم الاتفاق في موسكو على مشروع قرار لوقف إطلاق النار في المواقع في 22 أكتوبر/تشرين الأول بدون إشارة إلى انسحاب إسرائيلي وإطلاق مفاوضات مباشرة بين أطراف النزاع تحت رعاية أميركية وسوفياتية، ولم تلتزم إسرائيل بالقرار، حيث واصلت مناوراتها لحصار الجيش الثالث المصري بموافقة كيسنجر الذي قال لغولدا مائير "تستطيعون مواصلة العمليات بعد وقف النار على الأقل طوال المدة التي تستغرقها طائرتي من هنا إلى واشنطن علما بأنني سأتوقف ساعات في لندن".
وتوقف كيسنجر بعد مغادرته موسكو في تل أبيب، حيث التقى قياداتها واطلع على الموقف العسكري الذي تأكد من خلاله من قطع خطوط تموين الجيش المصري الثالث، ويقول في مذكراته (ص 619):
" غادرت إسرائيل مسرورا وكان سروري ممزوجا ببعض القلق. لقد توصلنا إلى تحقيق هدفنا الإستراتيجي"
هنري كيسنجر
وفي المقابل رفض دعوة لزيارة القاهرة عائدا إلى واشنطن. وكان يريد لزيارته إلى القاهرة أن تكون لائقة بمقام "ساحر فيتنام"، وقد أيقن أن الرئيس السادات 99% من أوراق الحل بين يديه، في حين يسعى إلى قطع الخيوط مع الاتحاد السوفياتي.
استمرت إسرائيل في خرق قرارات وقف إطلاق النار الصادرة في 22 و23 أكتوبر/تشرين الأول تحت رعاية كيسنجر الذي بذل جهودا مضنية لتغطية عمل الجيش الإسرائيلي من أجل قفل الحصار على الجيش الثالث المصري وكذلك احتواء التهديد السوفياتي جراء مواصلة إسرائيل خرق وقف إطلاق النار، إلى حد رفع درجة تأهب القوات الإستراتيجية الجوية الأميركية إلى الدرجة الثالثة.
وأعطى كيسنجر إسرائيل بالمماطلة واللعب على الحبال الدبلوماسية عدة أيام (من 22 أكتوبر/تشرين الأول إلى 27 أكتوبر/تشرين الأول، حين تم تثبيت وقف إطلاق النار في المواقع) لتغيير الموازين العسكرية وفرض حقائق ميدانية جديدة استغلها للضغط على مصر، حيث بدأ زيارته المكوكية إلى مصر والمنطقة، وافتتح مسار السلام بالمفاوضات المباشرة غير المسبوقة بين مصر وإسرائيل (فك الاشتباك).
ووضع كيسنجر نجمة أخرى على كتفيه في مساره الدبلوماسي، وكرّس نفسه نجما سياسيا عالمية بلا منازع، واستطاع تفكيك وتركيب أزمة الشرق الأوسط وفق الهوى الإسرائيلي، وخلخل النفوذ السوفياتي في المنطقة، وتمكن من إخراج مصر من دائرة الصراع العربي مع إسرائيل، ثم انكسرت بالخلافات لاحقا جميع الجسور في المنطقة بدون أن يتحقق السلام.
وقبل وفاته بنحو شهر، لم يغير الدبلوماسي السابق، الذي أصبح باحثا ومؤلفا ومحللا سياسا مرموقا، من مقارباته تجاه العرب والقضية الفلسطينية، حيث أدان بشكل حاد في آخر لقاءاته ما سماه "هجوم حماس الإرهابي" على إسرائيل، داعيا إلى ردعها بقوة، كما طالب بتخفيف الوجود العربي والأجنبي في ألمانيا التي لم ينس فيها جذوره اليهودية التي استغلها لخدمة إسرائيل طويلا، مكرسا لذلك الهدف كل مهاراته الدبلوماسية والسياسية.