الرئيسية - تقارير - مقال| حكاياتي مع معاشيق تحكي مأزق الثلاثية: الشرعية والرئيس والسعودية بقلم / عبدالقادر الجنيد | ١ يناير ٢٠٢٥

مقال| حكاياتي مع معاشيق تحكي مأزق الثلاثية: الشرعية والرئيس والسعودية بقلم / عبدالقادر الجنيد | ١ يناير ٢٠٢٥

الساعة 02:23 مساءً

أبسط طريقة لشرح مأزق اليمن، هي أن نحكي ما حدث يوم أمس في قصر معاشيق في عدن.

ولتجنب الملل سوف أحكي حكايات زياراتي الثلاث لقصر معاشيق.



الناس، تعجبهم الحكايات.

وربما يحدث نوع من إلقاء الضوء على مآزق أو احتقانات أو مآسي اليمن التي تتكرر بنفس الطريقة ولنفس الأسباب.

"لا يوجد قصر"

معاشيق، هو تل صخري كبير أجرد بلا زهر ولا شجر في حي كريتر ولكنه يحظى بإطلالة خلابة جميلة على البحر.

وهناك شريط رملي أسفل التل الصخري كانت تأتي السلاحف إليه عبر المحيط الهندي لتبيض ولكنه الآن مخيم للقوات السعودية.

لا يوجد قصر، ولكن توجد عدة مباني متناثرة هنا وهناك— يستعملها أعضاء مجلس الرئاسة اليمني أو رئيس الوزراء أو من كان ما كان من الشخصيات الهامة— ويتم الوصول إلى المباني أو البيوت عبر طرق اسفلتية ضيقة متصلة بالبوابات الرئيسية للتل الصخري.

وتوجد بوابة أو نوع من الحراسة عند مدخل كل مبنى هناك تابعة لمن يقيم بالمبنى ولا يأمن غدر باقي الحراسات.

سأحاول أن أحكي أزمة اليمن من خلال زياراتي الثلاث لقصر معاشيق.

أولا: أول زيارة للقصر

في ١٩٩٤، كنت ضمن مجموعة كبيرة من أهل تعز دعاهم نائب الرئيس علي سالم البيض للغداء والمقيل ومناقشة أحوال البلاد التي كانت نذر الحرب واضحة.

خرجت الصباح من تعز ووصلت عدن بعد ثلاث ساعات قبل منتصف النهار.

دخلت من بوابة قصر معاشيق الرئاسية وأنا أقود سيارتي الخاصة بيسر وسلاسة وتكريم بعد أن وجدوا إسمي في قائمة الضيوف.

عندما يريد اليمنيون إبداء الحفاوة فإن هذا يكون بالدعوة لتناول الغداء وإغناء المائدة باللحم والمرق والفتوت والمعجنات الغارقة بالسمن والعسل اليمني الفاخر المشهور ثم يتبع كل هذا جلسة المقيل لتناول القات وتجاذب الحديث الحميم أو إجراء المناقشات الجادة أو عقد الإتفاقات وعقد الصفقات.

واليمن متنوع في الطقس والتضاريس واللهجات والأطباق المحلية الفريدة المميزة التي يحرص المضيف على أن تكون على المائدة كنوع من الفخر والحفاوة وإعلان الهوية والأصالة والفرادة.

لأن الرئيس البيض كان حضرميا، فإني استمتعت بأكل الهريسة الحضرمية لأول مرة التي تشبه الهريش عندنا ولكن يفحسون بداخلها اللحم.

بعد الغداء، عرضوا على الضيوف المبنطلين معاوز ثمينة فاخرة الملمس والنقش والقماش لجلسة المقيل وتناول القات، ومازلت حتى الآن متحسرا على خجلي من الاستحواذ عليه والاحتفاظ به للذكرى كما فعل زملائي.

أصبح علي سالم البيض رئيسا لجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، في ١٩٨٦، بعد معارك مروعة بين الزمرة والطغمة، أو بين الضالع وأبين، أو بين القبائل الماركسية الجنوبية بحسب الأوصاف المختلفة التي اكتسبتها حرب الشوارع في عدن تلك الأيام.

وقرر الرئيس الجنوبي الجديد الإقامة في معاشيق ومنذ ذلك الحين اكتسب هذا المكان تسمية قصر الرئاسة أو قصر معاشيق الرئاسي.

ثم قامت الوحدة اليمنية، وتنازل الرئيس اليمني الجنوبي عن منصبه بنوع من النبل والشهامة والعظمة النادرة للرئيس اليمني الشمالي علي عبدالله صالح.

مقر الغداء والمقيل، كان هو مقر نائب الرئيس المضيف الذي كان هو الرئيس.

وكان نائب الرئيس "الجنوبي" حينها على خلاف كبير مع الرئيس "الشمالي"، وصل إلى درجة الصراع والتنابذ بالألفاظ والمسميات.

الرئيس الجنوبي، كان يريد "تصحيح مسار الوحدة".

الرئيس الشمالي، كان يتهم الرئيس الجنوبي ب "الخروج على الشرعية".

استضاف الرئيس الجنوبي رجالات تعز كنوع من العلاقات العامة في الصراع القائم بينه وبين الرئيس الشمالي.

بيوت الكثير من الضيوف من أهل تعز، كانت أفخر وأوسع من مقر الرئيس.

ابتدأ المقيل بمقدمة طويلة من الرئيس الجنوبي يحكي فيها كيف كان معزولا في صنعاء،

 وكيف امتنع الرئيس الشمالي عن الاجتماع والتشاور وإدارة شؤون البلاد معه،

وكيف كان الرئيس يتصل بالناس المهمين في صنعاء الذين كانوا يترددون على مقيل الرئيس الجنوبي وينهرهم وينهيهم عن معاودة الزيارة.

الرئيس الشمالي عزل الرئيس الجنوبي في صنعاء وأدخله في ثلاجة.

وكالعادة، يحلو الكلام الطويل لليمنيين وقت القات ولم يقصر الزوار الضيوف في ممارسة هذه العادة.

كنت أشعر أن الوقت الثمين يضيع وأن كل ما يدور من حديث، هو أشياء كلنا نعرفها ولا يقترب من لب الموضوع.

كنت أسمع وأتردد عن المشاركة، ولكن كان الوقت يمر ويضيع.

قبل المغرب، تقريبا، تغلبت على ترددي وسألت الرئيس البيض، سؤالا واحدا:

"هل انتم مستعدون؟"

مسدوس، الذي كان أكبر معاوني الرئيس أو نائب الرئيس وجالسا بجانبه، هز رأسه بما يعني أنهم مستعدون.

الرئيس البيض، رد بثقة:

"نعم، نحن مستعدون"

كانت الاستعدادات والتحشيدات والتصريحات ونذر الحرب العسكرية، واضحة.

وما أن سألت السؤال الذي كان يدور الجميع حوله حتى فهمه الجميع في الحال وفهمه مسدوس وفهمه الرئيس البيض.

ما حدث بعد ذلك يوضح أن الرئيس الجنوبي لم يكن مستعدا.

ما حدث بعد ذلك، يوضح أن الرئيس الشمالي صالح كان قد اخترق الجنوبيين السياسيين والحزبيين والماركسيين والقادة العسكريين والمشائخ والسلاطين والإسلاميين والأفغان العرب الجنوبيين، وكان الرئيس صالح قد احتضن على رأسهم أهل بلاد أبين كلها التي انتصر عليهم أهل الضالع في ١٩٨٦.

وانهزم الرئيس علي سالم البيض وهرب خارج البلاد وهرب مسدوس بأموال وفلوس الحزب الاشتراكي إلى چيبوتي أو الصومال.

واجتث الرئيس صالح بعدها الحزب الاشتراكي.

غادرنا مقيل الرئيس بعد حلول الظلام وقدت سيارتي في الطريق الطويل الموحش ووصلت إلى بيتي في تعز بعد منتصف الليل.

ومازلت أتذكر تفاصيل ذلك اليوم وخاصة طعم تلك الهريس الحضرمية والغداء اليمني اللذيذ وتلك الحسرة على ذلك "المعوز" الحضرمي الذي ارتديته أثناء المقيل واستحيت من الاحتفاظ به.

لكن الأهم مما بقى معي، إنما هو نفسه أهم ما في موضوعنا اليوم:

أزمة قصر معاشيق.

أزمة "الشرعية" في اليمن.

أزمة منصب "الرئيس".

ثانيا: ثاني زيارة للقصر

كان الرئيس رشاد العليمي في سبتمبر ٢٠٢٢ في زيارة إلى ألمانيا قبل أن يستمر في طريقه إلى نيويورك لحضور اجتماعات رؤساء العالم في الأمم المتحدة.

وكنت أنا في كندا حيث نزحت من بيتي ومدينتي وبلادي بعد أن استحال علي العيش في اليمن.

هاتفني الرئيس:

 "استعد للسفر إلى نيويورك، سوف تعود معي وسوف تذهب إلى تعز."

— "ولماذا تريدني أن أذهب إلى تعز؟"

 "لتعود وتشرح انا أوضاع تعز"

— "ولكني أستطيع أن أحكي لك عن كل شيئ في تعز وأنا في مكاني هنا في كندا." "أنا أتابع كل صغيرة وكبيرة"

 "لا. تعز قد تغيرت كثيرا والمشاهدة العيانية ليست مثل التواصل من بعيد"

سافرت إلى نيويورك، ثم رافقته بعد خمسة أيام بالطائرة السعودية الخاصة إلى الرياض، ثم بعد شهر بطائرة عسكرية خاصة إلى عدن.

الرئيس رشاد العليمي، شخص مهذب ولطيف للغاية ولا يمكن أن يجرح أو يحرج أي شخص،

وعنده قدرة خارقة للعادة على تحمل ثقالات الآخرين حتى الأراذل منهم.

حذرني الرئيس ونحن في الجو في طريقنا إلى عدن بألا أتوقع ظروفا معيشية جيدة في المبنى الذي سوف أقيم به مع الرئيس في قصر معاشيق.

ابتسمت له وطمأنته : "أنا كنت سجينا عند الحوثي لمدة ٣٠٠ يوم وأستطيع العيش تحت أي ظروف."

ما أن هبطت الطائرة في مطار عدن، حتى قفز جنرال سعودي (رتبة عميد تاج ملكي وثلاث نجوم) بزيه العسكري، ومد ذراعيه ليحيطها حول الرئيس رمزا للحماية والأخوية وحتى الأبوية، ورحب بالرئيس باحترام، ثم قال بصوت مسموع:

 "الرئيس وحده ينزل ومعه شخص واحد من حراسته والباقي ينتظرون قليلا ثم سوف يتم نقلهم."

وجه كلامه بعد ذلك للرئيس ولكن بصوت مسموع أيضا:

"المعذرة، فخامة الرئيس، قد تم رصد إشارات لا توحي بالأمان."

ما أن نزلنا لنركب السيارات المدرعة السعودية حتى كانت المدرعة التي أقلت الرئيس قد اختفت عن الأنظار.

دخلت قصر معاشيق في الزيارة الثانية على ظهر مدرعة سعودية، ولم نتوقف عند البوابة ولم يسأل أي أحد عن أي شيئ.

وقضيت ثلاثة أيام في "القصر"— الذي قد سبق وحذرني الرئيس من مستواه— مشاركا لأحد مرافقي الرئيس وحمام مشترك للجميع والأثاث أقل مستوى بكثير من أثاث شقتي عندما كنت طالبا بالجامعة.

وكنت في نفس الطابق الذي يقيم فيه الرئيس.

أبديت اندهاشي من أن هذا المبنى ليس هو المبنى الذي استضافنا بداخله الرئيس علي سالم البيض قبل ٢٨ سنة.

ردوا علي: "ذلك المبنى، قد احتله وبسط عليه نائب الرئيس عيدروس الزبيدي."

هذا الرد يغني عن ألف كلمة.

لم أسأل كثيرا ولكن افتهم لي أنه بجانب السعوديين، يتواجد هناك في مكان آخر فصيلة أو كتيبة جنود من الإمارات أيضا.

أزمة معاشيق في الزيارة الثانية

أركان مأساة اليمن، مازالت هي نفسها:

ما هي "الشرعية"؟

من هو "الرئيس"؟

ما هو "نائب الرئيس"؟

وقد تم إضافة أزمات جديدة:

ما هو دور الإمارات؟

ما هو دور السعودية؟.

 

"الخروج من معاشيق"

بعدها بثلاثة أيام،

خرجت من معاشيق بعد الفجر، فوق سيارة "حماية رئاسية".

واستوقفنا في البوابة الرئيسية ميليشيا "المجلس الانتقالي".

وتعرضنا لسين وجيم: من هذا؟ وإلى أين هو ذاهب؟.

"الآمر الناهي وصاحب المكان في قصر معاشيق، هو المجلس الانتقالي"

غادرت قصر معاشيق إلى مكان متفق عليه بين الحماية الرئاسية وشركة تأجير سيارات للسفريات التي لم تكن تعلم من نحن ولا من هو الذي استأجرها ولا من سيسافر عليها.

وانطلقت إلى مسقط رأسي في تعز مع جندي من الحماية الرئاسية. 

آخر مرة غادرت فيها تعز كانت يوم ٦ أغسطس ٢٠١٥، كانت إلى صنعاء في ظلام ليلة حالكة وكنت مخطوفا مقيدا معصوب العينين في حافلة سيارة دباب صغيرة يقودها سائق متهور بسرعة لا يستطيع أن يرى معالم الطريق، بصحبة ستة مسلحين حوثيين أفواههم منتفخة بالقات ويحشونها كل ساعة أو ساعتين ببودرة التمباك "الشمَّة" ويزملون زوامل الحوثي ويصرخون "الموت لأمريكا… وبقية الصرخة الخمينية".

ثالثا: ثالث زيارة للقصر

كان الرئيس رشاد العليمي كريما معي مرة أخرى في خريف ٢٠٢٣

طلب مني المجيئ إلى عدن لأكون ضمن أهالي تعز الذين سيرافقونه في زيارته الأولى إلى تعز بصفته رئيسا لليمن.

هذه المرة نزلت في فندق في خور مكسر مثلي مثل كل غيري من الضيوف.

أقلونا في اليوم الثاني لمقابلة الرئيس فوق سيارات رئاسية، يقودها جندي يمني جنوبي بالزي الرسمي وعلى صدره مكتوب "حماية رئاسية".

وعند بوابة قصر معاشيق أوقفنا جندي يمني جنوبي بالزي العسكري أيضا ولكن فوق صدره هناك شارتين: شارة مكتوب عليه "المجلس الانتقالي " وشارة عليها علم الجنوب بالمثلث الأزرق والنجمة الحمراء الذي كان رمزا للدولة الإشتراكية السابقة، والذي هو عزيز علينا أيضا، ولكنه قد تحول وصار علم الانفصال ورمزا يهدد بتشرذم اليمن.

"جندي رئاسي وجندي انتقالي"

جنود الرئاسي يقيمون ويحرسون الرئيس في الأعلى عند مداخل مبنى الرئيس بينما الانتقالي يتحكم في كل شيئ في البوابات الرئاسية وعند مفترق الطرق بين المباني.

الإثنان، يتعاملان مع بعضهما بصوت هادئ.

نحن ضيوف الرئاسي لكن الانتقالي لا يتوقف عن إلقاء الأسئلة.

أسئلة الانتقالي، تتكرر ولكنها هي نفسها بينما يقوم الرئاسي بترديد نفس الإجابات مع شيئ من التحمل والصبر.

الجندي الانتقالي يكرر بتعنت نفس الأسئلة والجندي الرئاسي يكرر نفس الإجابات بصبر وأنا أراقب وأندهش.

ثم يطلب الانتقالي جوازات سفر ضيوف الرئيس الذين هم فوق سيارة رئاسية يسوقها جندي حماية رئاسية.

ثم يتصل الجندي الانتقالي بقيادته.

وبعدها يسمح الانتقالي للرئاسي بالعبور هو والضيوف.

المدهش، هو أني المندهش الوحيد ما يدهشني، هو أنني كنت الوحيد الذي اندهش من كل ما أراه.

كل الأعزاء الذين معي كانوا يسلمون بما يشاهدونه ويتوقعونه ولا يندهشون.

وأكاد أشعر أنه لا يعجبهم اندهاشي.

"زيارة الرئيس إلى تعز"

سافر الرئيس إلى تعز وعاد إلى عدن خلال ٢٤ ساعة فوق طقم مدرعات سعودية ورافقناه نحن ضيوفه فوق سيارات رئاسية وسيارات سفريات.

لم يكن من الممكن أن تتم هذه الزيارة لولا السعودية.

"أزمة معاشيق في الزيارة الثالثة"

تزداد الأزمة سوء.

وأركان مأساة اليمن، مازالت هي نفسها:

ما هي "الشرعية"؟

من هو "الرئيس"؟

ما هو "نائب الرئيس"؟

من هو المسؤول في القصر؟

ويزداد وضوح أن حل كل الأزمات بدون حروب أهلية لا يمكن أن يتم إلا على يد السعودية.

رابعا: ما حدث يوم أمس في القصر

قامت الكتيبة العسكرية لميليشيا "المجلس الانتقالي" عند البوابة الرئيسية بالزحف إلى أعلى وطردت جنود "الحماية الرئاسية" من بوابتين وجعلتهم يتقهقرون إلى خطوطهم الخلفية عند المبنى.

وحدث إطلاق فوق رؤوس "الحماية الرئاسية".

ثم بعد ساعات جاء— متأخرا— قائد القوات السعودية المقيمة في قصر معاشيق وأعاد كل جندي "انتقالي" جنوبي منتصر إلى مكانه،

 وأنقذ كل جندي "رئاسي" جنوبي بائس صابر إلى مكانه الذي طرد منه.

السعودي، يستطيع حل مشاكل اليمنيين، ولكنه يتأخر قليلا، أو لا يأتي، أو لا يعجبه وجع الراس واللَّوَك والنزق الذي يغرق بداخله اليمنيون.

واليمنيون، يستحيل عليهم حل مشاكلهم بأنفسهم.

قصر معاشيق، اليوم

لن يخرج قصر معاشيق من أزماته إلا بالآتي:

١- حسم مفهوم "الشرعية"

٢- حسم قوة منصب "الرئيس"

٣- مساعدة السعودية في تقوية مفهوم الشرعية ومنصب الرئيس 

خاتمة:

اليوم، هو أول يوم في ٢٠٢٥

ونحن مازلنا نحاول أن نقوم بجهد لحالة اليمن والسعودية—٢٠٢٥

ماذا تريد اليمن من السعودية؟ وماذا تريده السعودية من اليمن؟.