العجلة من الشيطان؛ معنى مأثور ومتداول بكثرة؛ وأكدت صحته أحداث أوكرانيا الأسبوع الماضي. فمع أن العجلة أو التسرع في أمور الدنيا (أمور الآخرة تحتاج للمسارعة) تتناقض مع التأني والدراسة، وتؤدي إلى المهالك والفشل.. إلا أن لقب "الشيطان الأكبر" الذي أطلقه الخميني على الولايات المتحدة وربما الغرب عموماً؛ تأكدت صحته مع ملاحظة العجلة الواضحة في اتخاذ دول الغرب الكبرى مواقف جادة وعملية فورية احتجاجاً على قيام السلطات الأوكرانية بقمع المعتصمين في ميدان الاستقلال.. على العكس تماماً مما حدث ميدان آخر اسمه: ميدان رابعة!
في مقارنة الحالتين القمعيتين: الأوكرانية الأخيرة والحالة المصرية الدامية في ميداني رابعة العدوية والنهضة وما تلاهما من مذابح وجرائم مستمرة حتى الآن؛ يمكن ملاحظة أنموذج متجدد للعجلة الشيطانية للسياسة الامريكية والأوربية.. فمع الفوارق الكبيرة في حجم القمع ووحشيته، وعدد الضحايا إلا أن الرد الغربي لم يكن بمستوى واحد.. فلا الاتحاد الأوروبي قرر فوراً في الحالة المصرية إصدار عقوبات بحق مسؤولين مصريين تلطخت أيديهم بالدماء (!) ولا الإدارة الأمريكية قالت إنها لن تسكت عن العنف (!) حتى البنك الأوروبي الرسمي قرر إيقاف نشاطاته الاقتصادية فوراً في أوكرانيا! ونجحت دبلوماسية الاتحاد الأوروبي في غضون أيام قليلة جداً في فرض اتفاق على الجانبين يقضي بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وعزل وزير الداخلية والنائب العام الموالين للرئيس؛ بينما في مصر عجزت وزيرة الشؤون الخارجية الأوربية آشتون أن تقنع سلطة الانقلاب أن تلتقي الرئيس المنتخب في ظروف طبيعية، ولم تعرف مكان اعتقاله حين قابلته.. ومع ذلك فقد تسامحوا مع الانقلابيين المصريين، وتعاملوا معهم كأمر واقع رغم بحور الدماء المصرية التي سفكوها!
مع فارق حجم القمع الوحشي ونتائجه اللا إنسانية لصالح الحكومة الأوكرانية، وشرعية هذه الأخيرة التي جاءت بانتخابات (يقال إنها كانت مشكوكة في نزاهتها؛ إلا أنها لا تقاس بانقلاب عسكري صريح!) مقابل عدم شرعية السلطة الانقلابية المصرية؛ فلا يوجد شيء يختلف في الحالتين يمكن أن يبرر هذه العجلة الأمريكية الأوروبية في الإدانة واتخاذ إجراءات فورية؛ إلا إذا قيل إن الغيرة الغربية الفورية على حقوق الإنسان الأوكراني كانت نكاية في روسيا جارة أوكرانيا المؤيدة للحكومة الأوكرانية.. أو لأن المواطنين الأوكرانيين المقموعين ينتمون إلى الدائرة الحضارية الغربية مقدسة الدماء؛ على العكس من المواطنين المصريين الذين يجاورن لسوء حظهم إسرائيل المؤيدة للانقلاب العسكري، وينتمون إلى دائرة حضارية أقل حظاً في امتلاك المقومات الإنسانية وفق المعايير الغربية، وقتلوا وأصيبوا واعتقلوا بأعداد مضاعفة أضعافاً والغرب مشغول بلغز تحديد أو وصف ما حدث في مصر: وهل هو انقلاب عسكري أم حركة ثورية شعبية تستحق التأييد.. أو على الأقل تستحق أن يتغافلوا عنها، ويلتمسون لها الأعذار؛ بوصف حكام مصر من إخوانهم المؤمنين الذين يجب منحهم سبعين عذراً قبل الحكم على أفعالهم المشينة!
ولو قيل إن الموقف الغربي المتعجل مفهوم لأن أوكرانيا جارة لصيقة بالقارة الأوروبية، والجار للجار ولو كان.. يهودياً؛ فكيف نفسر العجلة الأمريكية في اتخاذ موقف شديد هكذا رغم أنها ليست دولة يهودية ونسبة اليهود فيها ضئيلة جداً؟
لا تفسير إلا أن الدماء التي أريقت في ميادين مصر وشوارعها هي من صنف: الدم العربي المسلم الذي يراق عادة دون غضب غربي في فلسطين، وليس لها ثقل في ميزان المصالح الاستراتيجية الغربية العليا (أبرزها حماية إسرائيل) يجعل أصحابها يغضبون من انتهاكات حقوق الإنسان، والانقلاب على النظام الديمقراطي بوصفه خطاً أحمر لا يقبلون المساس به!
هذه هي خلاصة تفسير أسباب الموقف الغربي الإنساني المدافع بحماس عن حقوق الإنسان في أوكرانيا بعجلة ملفتة للنظر.. دون أن يعني ذلك أننا غاضبون للإطاحة بالرئيس فيكتور يانكوفيتش؛ لسبب بسيط وهو أن هذا الرجل ونظامه أنموذج للزعماء العرب الذين أطاحت بهم ثورات الربيع العربي؛ فقد أطاحت به إحدى الثورات البرتقالية الشهيرة عام 2004.. لكن أجهزة نظام الدول العميقة الموالية ظلت تحكم أوكرانيا سراً بعد الإطاحة به على الطريقة المصرية، وتعمل للعودة عبر صناديق الانتخابات هذه المرة (على طريقة ترشيح عمر سليمان وأحمد شفيق في مصر التي فشلت بسبب فوز الإخوان) واستطاع يانكوفيتش العودة عام 2010 بواسطة انتخابات حصل فيها على 48% مستعيناً بأجهزة الدولة العميقة التي بناها خلال سنوات حكمه! وتعرض قادة الانتفاضة ضده لمشاكل؛ فتم رشّ السم على وجه الرئيس ياشينكو تهميداً لابتعاده عن المسرح السياسي.. وجرجرت رئيسة الوزراء جوليا تيموشينكو إلى القضاء والسجن بتهمة الفساد (على طريقة جرجرة مرسي بتهمة الإرهاب).. وفي جلسة إقالة الرئيس يانكوفيتش أصدر البرلمان الأوكراني قراراً بإطلاق سراح رئيسة الوزراء المسجونة، وتعيين مقربين لها في مناصب مهمة.. (في الحالة المصرية لم يكن ممكناً اللجوء للبرلمان لإزاحة مرسي لأنه مؤيد فكان الحل انقلاب عسكري بنكهة ثورة شعبية الأولى من نوعها في العالم العربي التي تساندها دول رجعية واستعمارية!).
وكما حدث التناقض من الغرب؛ فقد حدث مثيله من روسيا؛ فقد أبدت سريعاً حميّة على الشرعية، وانتقدت المعارضة ووصفتها بأنها عصابات لصوص وإرهاب، وفي أول رد فعل على إقالة البرلمان لصديقها يانكوفيثش أعلن تجميد تقديم مساعدات مالية حتى تتضح سياسة الحكومة الجديدة!
وإذا لم تكن هذه عجلة من الشيطان فهي.. الشيطان نفسه، وبلحمه وشحمه.. ومصالحه الأنانية!
ولأصحاب المصلحة المشروعة في التغيير نحو الأفضل في اليمن نقول: خلوا بالكم من.. علي يانكوفيثش! فهذا هو الدرس المجاني الذي نستفيده من أوكرانيا.. ففي كل بلد يوجد يانكوفيش عبد الله صالح وحسني مبارك يتآمرون ولهم جماعات متعددة تعمل للعودة من جديد والانتقام ممن أطاح بها من السلطة!