اليمن عصيّة على الانهيار والتجزئة، رغم كل المعطيات الصادمة يترسّخ هذا اليقين باليمن وقدرتها الاستثنائية الغامضة والساحرة على التماسك والبقاء؛ وكأنه يقين شبيه بحقائق الكون الثابتة، وَمَنْ – غير اليمن – بإمكانه أن يخالف نواميس المنطق ومسار التاريخ؛ أوليست هذه حقائق التاريخ المعاصر للعرب..؟!.
عندما كان العرب يتجرّعون هزيمة 67م، كانت اليمن تتحرّر من الاستعمار البريطاني في جنوبه، وتكسر حصار الإمامة وأوهامها المدعومة بست دول إقليمية وعظمى في ملحمة صمود السبعين يوماً التي مثّلت دفاعاً عن الوجود والحرية والوطن؛ متجسّدة كلها في شعار «الجمهورية أو الموت»
ومن غير اليمن يذهب شطراها إلى إنجاز التوحُّد؛ مستغلين «برهة» خمود الحرب الباردة، وينفلتون بسرعة البرق من ميكانيزماتها، ذاهبين بحُسن نيّة أو دونها؛ نحو توحيد بلدهم؛ الحلم التاريخي الذي طال انتظاره، والذي مثّل إعادة التئام لبلد بقيت هويّته التاريخية موحّدة رغم انشطاره إلى دولتين متناقضتين.
لليمن قدرة استثنائية على التحمُّل، هذه حقيقة لا تقبل الجدل، لو أن المعطيات الواقعية الكارثية التي تجاوزتها اليمن خلال السنوات الماضية تواجه دولة أخرى لكفى نصفها للانهيار والتفتت.
اليمن تشبه كوريا وألمانيا في الجانب التاريخي الثابت للهوية؛ وحتى عندما كانت هناك دولتان على جغرافيتها التاريخية «اليمن»، كانت وحدتها هدفاً لنضال الحركة الوطنية في الشمال والجنوب، وفي طليعتها الحزب الاشتراكي اليمني، الذي يمكننا القول باطمئنان إنه بطل الوحدة اليمنية ورائدها، ومؤسّس ثقافتها الوطنية في مناهج الدولة التي أقامها في الجنوب، وإعلامها وخطابها السياسي، وكل مساراتها؛ قبل أن تستحكم فيه «قيادة الصدفة» ونفايات التاريخ.
أتذكّر مقولة كتبتها الباحثة الأمريكية شيلا كارابيكو التي أقامت في اليمن مطلع التسعينيات من القرن الماضي؛ في كتابها عن اليمن؛ لخّصت فيه القول إن الهويّة اليمنية والإحساس بها كان أقوى من الدول العربية الموحّدة؛ مقارنة باليمن المجزأ إلى شطرين.
صحيح أن تشظيات أحدثتها حرب 94م أثخنت الجسد اليمني وبنيته المجتمعية؛ غير أن الثابت هو أن الآثار الطارئة تعالج وتندثر، بينما تبقى السمات الجوهرية ثابتة وقابلة للتجدُّد وإعادة البناء والتطوّر.
يجادل بعض المرتكسين بمسائل المواطنة والمساواة والحرية والكرامة لتبرير التجزئة والانفصال؛ وكأن مسار التفتت الكارثي يضمن كل هذه الأهداف الإنسانية العليا؛ غير أن كل ذاك مجرّد أوهام وارتكاسات مرضية تعبّر عن حالة يأس وانكسار لدى قائليها؛ وليست حقائق موضوعية تعبّر عن الواقع المادي الملموس وضروراته، وما لا يأتي في ظل الوحدة لن يأتي في ظل التفتُّت والتجزئة والاحتراب.
***
أمام المشهد المضطرب في الساحة العربية من ليبيا إلى سوريا، إلى العراق؛ يتماسك وجدان اليمنيين أكثر بوحدة وطنهم، ومصيرية بقائه في منأى عن حمّى التجزئة والاحتراب الأهلي والتشظّيات من كل نوع.
صحيح أن التحدّيات المطروحة لا تقلُّ عن تلك المستفحلة في العراق وليبيا، غير أن الواضح أن اليمنيين قطعوا الشوط الأكبر في تجاوزها، وإذا لاحظنا أن عوامل التشظّي العمودي في الكيان الوطني كانت في اليمن أقدم من ليبيا، وسبقت فترة الاضطراب التي تلت «الربيع العربي» وتحديداً منذ حروب صعدة الست، والحراك الجنوبي «بفصيله المتطرّف» الذي برز مع صحوة البيض من سباته وخروجه من سردابه، وتوطن «الإرهاب» وحواضنه الثقافية الدينية المتطرّفة في البلد، فبإمكاننا القول إن مسار الاضطراب الانتقالي في اليمن كان أقل من المتوقّع، رغم كل فداحاته.
صحيح أن أداء مسؤولي الانتقالية لم يكن متوقّعاً بضعفه وتردّده؛ غير أن ذلك لا يغيّر من حقائق الواقع أن وحدة اليمن هي الأساس الثابت الذي لا يمكن تجاوزه إلا إلى المجهول؛ الذي يفتح كل احتمالات الاحتراب الشامل والتفتُّت النهائي والتمزُّق الذي لا رجعة عنه.
***
من سخرية التاريخ أن الانفصاليين يجاهرون ويفخرون بدعوتهم إلى «الانفصال» وأن الإماميين يتبجّحون ويرفعون أصواتهم دفاعاً عن «الحق الإلهي المقدّس» والإمامة؛ وأن الإرهابيين لا يهتز لهم ضمير وهم يقتلون اليمنيين بدم بارد باسم الإسلام، بينما من يؤمن باليمن ووحدتها وتاريخها وهويتها يصمت ويمشي «جنب الجدار وكأنه عامل عملة»..!!.
إذا كان الحكم الطائفي العصبوي الزيدي قد أساء إلى الوحدة اليمنية؛ فهو خصمنا جميعاً كيمنيين، وقد كنّا مدركين لفداحة مضامينه الطائفية العصبوية التدميرية قبل أن «يدخل» الجنوب ويدمّر بنيته المجتمعية، ويعمّم تخلّفه عليه، وينهش ثرواته، وهذه البنية السلطوية العصبوية لا علاقة لها بالناس العاديين في شمال الشمال حتى نأخذهم بجرائمها، بل إنهم أكثر مظلومية منّا؛ في جنوب اليمن الكبير؛ وأكثر تضرّراً منها؛ وبحاجة إلى التحرُّر من سلطويتها التي حوّلتهم إلى مخزون بشري للنظام العصبوي المتسلّط؛ أكثر من غيرهم.
***
وحدتي.. وحدتي..
يا نشيداً رائعاً يملأ نفسي
أنت عهد عالق في كل ذمّة
أمتي.. أمتي..
امنحيني البأس يا مصدر بأسي
واذخريني لك يا أكرم أمّة
رايتي.. رايتي..
يا نسيجاً حكته من كل شمس
اخلدي خافقة في كل قمّة
عشت إيماني وحبي أمميا
ومسيري فوق دربي عربيا
وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيّا
«عبدالله عبدالوهاب نعمان»