مات منذ أيام الجنرال العجوز الدكتاتور فيليب جونزاليس رئيس كوستاريكا ، إحدى جمهوريات أمريكا الوسطى في الثمانينات . وجد ميتا في كوخه الصيفي وفي يده كتاب هو عبارة عن مذكرات خصمه السياسي المعارض لنظام حكمه سلفادور غراسيا .
لم يكن قد مضى على وفاته أكثر من ست ساعات ، كما أكد ذلك تقرير الطبيب الشرعي ، حينما اكتشفت ذلك ابنته الوحيدة التي كانت تزوره مرة كل أسبوع . فمن محاسن الصدف أن وفاته كانت قد صادفت اليوم الذي تعودت فيه إبنته "روزا " أن تزوره لتهتم بشئونه ، وتنظر في احتياجاته ، وتجهز له ما أمكن لها أن تجهزه من طعام وغير ذلك من مستلزمات الحياة . ففي السنوات الخمس الأخيرة من حياته عاش وحيدا بعد أن ماتت زوجته وتركته للخادمة التي عاشت معهم عمرا طويلا ، ثم رحلت هي الأخرى إلى عالم الآخرة . أما أصدقاؤه فقد هجروه ؛ وحتى أولئك الذين كانوا من أركان حكمه من الجنرالات وأمضى برفقتهم سنوات الاحتجاز الطويلة في منتجع رديء ورطب بالقرب من أحد موانئ تصدير الموز يلعبون الدومنا ، ويعاقرون التكيلا ، ويعاكسون الريفيات بملابسهن المزركشة واللاتي يقدمن من وراء جبال السييرا ليعملن في تنظيف الموز قبل تعبئته وشحنه ، ويتنبأون بأحداث البلاد ويقامرون على المستقبل السياسي لكاسترو مع كل انقلاب يهز جنرالات الحكم فيما كان يعرف بجمهوريات الموز ، لم يعد يلتقي بأحد منهم . آخر واحد منهم زاره منذ سنة وأهداه الكتاب الذي وجد بيده حين وفاته .
أدركت الإبنة أن والدها قد غادر الحياة . نظرت إليه بهدوء ، لم تسعفها الدموع في تلك اللحظة التي أخذت تقارن فيها بين والدها المسجى في فراش مبعثر الألوان والكيان ، يعكس حال الزمن الخاص الذي آل إليه ، ووالدها الذي كانت تهتز لحركته الأرجاء المحيطة ، وتستنفر من هيبته الأشياء ، بما فيها أبالسة القوم من أركان حكمه ، وذلك بمجرد أن يلوح بعصى المارشالية ويصدر أمرا ما . كانت آنذاك صبية ، وكان الجميع يتودد إليها بكلمات تحمل الكثير من النفاق وقدرا كبيراً من الصدق عندما يتعلق الأمر بجمالها ، فقد كانت ذات جمال أخاذ ورثته عن أمها ممثلة المسرح التي أغرم بها الجنرال في بداية حكمه وقرر أن يملكها في عرس أعتبر زفاف العصر في تلك البلاد الفقيرة التي يتوزع سكانها بين مزارع ومرافئ الموز ، وملاعب كرة القدم ، ومكاتب الهجرة ، وشواطئ التعري للتلصص على رواد تلك الشواطئ من أثرياء كوستاريكا والبلدان المجاورة ، وأزقة تهريب السيجار الكوبي والماريجوانا الشاردة والمطاردة من الحدود المكسيكية الأمريكية ، وحانات التيكيلا الرخيصة المقلدة للتيكيلا المكسيكية .
كانت أول نصيحة قدمتها له ، وقد أوغل في اغتيال خصومه وأغرق حكمه في الدم ، "لا تقتلهم لتحييهم في ضمير المجتمع ، عليك أن تبقيهم أحياء وتقتلهم في عيون الناس " . أعجبته الفكرة . جمع البلاطجة وشذاذ الآفاق وكل من سقط في قبضته أو على مائدته من تجار الكلمة ، أو ممن أفقدهم آدميتهم وسخرهم لخدمته ، وأخذ يشوه خصومه بالإشاعات والحملات الإعلامية ، لكن كثيراً من خصومه الذين صمدوا أمام هذه الحملات ظلوا عرضة للموت على يد عصاباته . كان يستعجل نهاية خصومه ولا يطيق الانتظار . لذلك هاجر الكثيرون هربا إلى خارج البلاد ، وهاجر سلفادور غراسيا صاحب الكتاب ، الذي كان بيد الجنرال يوم مماته ، إلى هندوراس متخفيا في شخصية عالم آثار مكسيكي متخصص في حضارة "الأنكا " ، واستقر في قرية نائية على ضفاف نهير صغير يطلق عليه "آمور" . بعد فترة أدركه الموت هناك وقد انتهى من تأليف كتابه وأوصى المرأة التي عاش في كنفها في تلك القرية أن تسلم المخطوطة لصديقه أستاذ الفلسفة المتقاعد الذي كان يزوره من حين إلى آخر .
التقطت " روزا" الكتاب من على صدر والدها ، واستجمعت قواها ولملمت أوصالها المنهارة ، وخلال ساعات النهار أنهت مراسم الدفن بمساعدة المجلس المحلي للبلدة الصغيرة التي يقع فيها الكوخ . حضر رئيس المجلس مراسم الدفن بعد أن تسلم موافقة من العاصمة ، وحمل معه بوكيه ورد ولوحة رخامية كتب عليها اسم الجنرال وصفته كرئيس سابق لكوستاريكا .
في المساء ، عندما قررت العودة إلى البلدة التي تعمل وتعيش فيها مع فتاة بيروفية لا يتجاوز عمرها إحدى عشر ربيعا ، كانت قد تبنتها من إحدى مستوطنات الهنود الحمر في البيرو قبل سنوات ، لم تجد ما تحمله معها سوى ذلك الكتاب وصورة فوتوغرافية قديمة تجمعها مع أمها وأبيها في حديقة منزلهم الرئاسي ، ونظارة والدها ذات الإطار الذهبي ، وبعض الأشياء الصغيرة ، التي لم تكن غير سقط متاع ، لا قيمة لها إلا فيما تحمله من ذكريات .
وهي تقرأ مذكرات المعارض السياسي لوالدها أخذت تسترجع كثيراً من صور حياة والدها وهو في الحكم ، لم يكن الكاتب متحاملا ، وما أدهشها أكثر هو أن الملاحظات التي سجلها والدها على الهوامش كانت تؤيد أقوال الكاتب أو تجادل بعض الوقائع بمنطق ضعيف . في أحد الهوامش سجل الجنرال " كان سلفادور يضرب خصمه بقوة كلماته الناعمة والمحترمة وذات المضمون الثري ، ولم يحدث أن خرج عن هذا النمط من التعبير المهذب حتى وهو يتعرض للإهانات والتشهير والتهديد بالقتل .. كنت أشعر أنه يتصرف بسمو وبترفع في مواجهة "نذالة" نظامي ، وهذا ما كان يغيظني أكثر وأكثر .. ظل يترفع في مواجهة سلوك منحط لنظام دكتاتوري كان بالإمكان أن تكون أدواته غير منحطة " . وفي مكان آخر يسجل الجنرال هامشا يقول فيه : " لقد وصف سلفادور نظام حكمي بأنه دكتاتوري ضعيف ، ومصدر الضعف فيه هو الأدوات المنحطة التي استخدمها جلاوزة النظام في قمع معارضيه . وفعلا أستطيع القول اليوم بكل صراحة أن منهجنا كان دكتاتوريا أما أدواتنا فقد كانت تعبر عن الرعب الذي يتملكنا تجاه وقائع الحياة بما في ذلك مقاومة المجتمع . لقد كانت أدوات منحطة ، لم تكن تجسد القوة التي تتجلى كمظهر للدكتاتورية بقدر ما كانت تعكس رخاوة السلوك الذي يتسم بالنذالة " . كان ذلك آخر ما سجله الجنرال جونزاليز على هامش مذكرات معارضه السياسي الشهير سلفادور غراسيا وكأنه يبرئ نفسه أمام معارضه في محكمة كان فيها الحضور مقتصراً على اثنين كتاب يعج بالوقائع التاريخية وضمير ربما كان مثقلاً بآثارها .
*صحيفة الشارع