خروج الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من محبسه في صنعاء ووصوله إلى عدن، قدم صورة مصغرة عن مكر السياسة ودهائها، وعن احتدام المعركة، بين القوى الإقليمية، إلى حد يمكن معه القول إن طهران هي التي تلقت الصفعة الأكبر بهذه العملية السياسية والأمنية النوعية التي أنهت حبس هادي ومحاصرته ، وأربكت ترتيبات الانقلابيين وأفقدتهم صوابهم.
أنجز الحوثيون انقلابهم، وأعلنوا ترتيباتهم لكنهم كانوا أعجز من أن يمضوا وحدهم، في بيئة إقليمية ودولية لا تعترف بهم ولهذا أبقوا الأمور كما بدت خلال المرحلة الماضية نصف انقلاب، بوجودهم في طاولة المفاوضات التي تنعقد برعاية الأمم المتحدة، وتبحث في ترتيبات سياسية من خارج الانقلاب، بل وتهدف إلى إنتاج صيغة توافقية جديدة تنسف كل ما أحدثه الانقلاب من إرباك شديد في بنية الدولة ومسار العملية السياسية.
لم يكن ما أقدم عليه الرئيس هادي هروباً، بل خروجاً عاصفاً أطاح منذ اللحظة الأولى بالانقلاب، وبكل الترتيبات المتصلة به، وبالمكاسب التي حققها الحوثيون نتيجة سيطرتهم على العاصمة وعدد من المحافظات، مستفيداً من المزاج السياسي الذي حكم المنطقة وحولها إلى حقل يغلي بالكراهية ضد القوى التي دعمت ثورات الربيع العربي أو تخلقت من رحم هذه الثورات.
وقد جاء البيان الذي صدر عن الرئيس بعد أن استقر بمدينة عدن في جنوب اليمن، مؤكداً على هذه الحقيقة، أي على أهمية خروج الرئيس من صنعاء، حيث عكس البيان إدراك الرئيس لصعوبة المرحلة وحساسيتها، فكان تشديده واضحاً على ضرورة العودة إلى مسار التسوية السياسية، على أساس المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ومخرجات الحوار الوطني، وأهمل أي ذكر لاتفاق السلم والشراكة، وقد اتحد هذا الموقف مع موقف وزراء الخارجية الخليجيين الذين أهملوا أي ذكر لاتفاق السلم والشراكة في البيان الصادر عن اجتماعهم الاستثنائي بشأن اليمن والذي عقد في الرياض مؤخراً. بل أن الرئيس هادي اعتبر أن كل القرارات التي صدرت بعد 21 سبتمبر باطلة، ما يعني أننا بصدد مرحلة تجريف لكل المكاسب التي حققتها المليشيا الحوثية الشيعية المسلحة.
هناك معطيات تؤكد أن عملية خروج هادي من نوع العمليات التي تجري بأدوات أمنية لكنها، تعتمد أكثر ما تعتمد على الثقل السياسي، الذي يمثله الطرف المستفيد من عملية كهذه، وهذا الطرف بالتأكيد، هو مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسه المملكة العربية السعودية، التي ضاقت ذرعاً، على ما يبدو بالاستعراضات الإيرانية المستفزة لإنجازات المليشيا الشيعية المسلحة في صنعاء، بصفتها أداة وذراع شيعي متشدد لإيران في جنوب الجزيرة العربية.
ومن هذه المعطيات الزيارات رفيعة المستوى لسياسيين من المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح إلى الرياض، وهي زيارات دللت على أن خيارات الرياض وشركائها الخليجين كانت مفتوحة على التعامل مع المتناقضات السياسية في اليمن، وبالأخص المؤتمر الشعبي العام ورئيسه علي عبد الله صالح، والتجمع اليمني للإصلاح، في الترتيبات الهادفة إلى الإطاحة بالحوثيين.
ومن هذه المعطيات الضغط الذي مارسه التجمع اليمني للإصلاح أحد أكبر الأحزاب السياسية في اليمن على الحوار وعلى المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه إلى اليمن، جمال بنعمر من أجل التسريع بالإفراج عن هادي، والامتناع عن الكلام من طرف ممثلي الإصلاح حتى يتم تحقيق هذا المطلب، ما دفع بالمسئول الأممي إلى زيارة الرئيس هادي في منزله المحاصر، ومن ثم إصدار بيان حمل إدانة قوية للانقلاب.
والأهم من ذلك أن بنعمر ربما وفَّرَ بهذه الزيارة تغطية من نوع ما للترتيبات المرتبطة بخروج هادي، وأن هذه الترتيبات كانت تتم بعلم مشترك من أطراف محدودة بينها ممثل أمين عام الأمم المتحدة، وإنها تجاوزت بوسائلها وبإمكانياتها إمكانيات المليشيا التي تحاصر منزل الرئيس، الأمر الذي يجعل من مسألة خروج الرئيس عملية استراتيجية نوعية تتجاوز بكثير مفهوم "الهروب" الذي يحاول الحوثيون تكريسه وتعميمه إعلامياً.
لا يمكن إغفال حقيقة أن تواطؤا قد تم من طرف الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، وذلك في سياق صفقة جانبية مع دول مجلس التعاون، ولهذا الأمر وجاهته إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الرئيس المخلوع هو الذي يسيطر أمنياً على الوضع في صنعاء، وقواته هي التي مكنت الحوثيين أصلاً من دخول دار الرئاسة، وسهلت للمليشيا الحوثية المسلحة القيام بمحاصرة منزل الرئيس هادي وفرض الإقامة الجبرية عليه.
ما أقدم عليه الرئيس المخلوع حينها، كان ذلك ضرباً من المغامرة السياسية التي هدفت إلى خلط الأوراق وقلب الطاولة، بغية دفع الأطراف المؤثرة الإقليمية والدولية إلى إعادة النظر في معاقبته، بصفته معرقلاً للعملية السياسية. وعلى الرغم من أن الجميع قد اكتشف الدور الحقيقي للرئيس المخلوع، إلا أنه حرص على أن ينجز كل ما أنجز باسم المليشيا الحوثية المسلحة، ولهذا جاء الانقلاب باهتاً ومثيراً للشفقة رغم كل ما ألحقه من أذى بالرئيس الشرعي وما تسبب به من جرح لكرامته ونيل من موقعه وهيبته ورمزيته.
ولأن الرئيس المخلوع أدرك أنه لم يعد بوسعه التخفي خلف الحوثيين، بعد أن أصبح تحت طائلة العقوبات، الدولية، وبعد أن أصدر مجلس الأمن قراره الرابع بشأن اليمن، وأنه لم يعد بوسعه المضي قدماً في التحالف مع الحوثيين، إلى النهاية، وهو حلف خاسر بكل الحسابات، فقد قبل على ما يبدو تقديم تسهيلات مكنت الرئيس هادي من الخروج إلى عدن، وذلك في إطار صفقة سيكون بوسعنا التعرف على طبيعتها في سياق الأحداث التي ستشهدها اليمن خلال المرحلة المقبلة.
خروج الرئيس من صنعاء يعني أن صنعاء ذاتها خرجت من قبضة طهران. على أنه يجب أن نضع في الحسبان أن عودة صنعاء إلى أداء دورها كعاصمة لكل اليمنيين دونها متاعب متوقعة، خصوصاً إذا ما أصر الحوثيون على التمسك بالمكاسب السياسية والأمنية والعسكرية التي أحرزوها خلال المرحلة الماضية، لأن من شأن ذلك أن يفتح المجال لاحتمالات حرب قد تكون خاطفة وقد تطول لا سمح الله، بين الدولة من جهة وبين المليشيا المتمردة من جهة ثانية.