في اطلالة سريعة على خارطة القارة الآسيوية في جنوبها الغربي ، نرى اربعا من الدول العربية التي عرفت انظمتها بالانظمة الجمهورية ، والتي شهدت قبل مايقرب من سبعين عاما توجها عارما نحو تأسيس الجمهوريات والنزوع نحو الأفكار القومية وحركات التحرر وشعارات الديمقراطية وحكم الشعب .
.في طليعة هذه الجمهوريات كانت الجمهورية اللبنانية والتي أعلن تأسيسها بعد خروج الاستعمار الفرنسي في أربعينات القرن الماضي من هذا الجزء من بلاد الشام ، لتعلن الجمهورية من خلال دستور جمهوري توافقي يعكس فكرة التسامح بين الطوائف المختلفة ، والديمقراطية البرلمانية عبر مبدأ الانتخاب ، و توزيع السلطات بتوازن يمنع طغيان طائفة على اخرى بين السنة والشيعة والمسيحيين المارونيين ، واعتبر لبنان من يومها بلد أفكار القومية العربية والديمقراطية والانفتاح .
وعلى بعد كيلومترات قليلة كانت تؤسس جمهورية اخرى باسم الجمهورية العربية السورية كرافعة من رافعات العمل القومي وكان لحزب البعث الاشتراكي صولاته وجولاته هناك باسم القومية العربية وافكار الاشتراكية والبحث عن الانتماءات التي تتجاوز الطوائف والمذاهب باسم الحرية والمساواة ، لتدخل هذه الجمهورية الوليدة في تجربة وحدوية فريدة شدت معها ملايين العرب وهم يتابعون بحماس وايمان اعلان الوحدة بين مصر وسوريا باسم الجمهورية العربية المتحدة في نهاية خمسينات القرن الماضي .
وعلى رغم فشل هذه التجربة في الوحدة الا ان شعار الوحدة العربية ظل هو الشعار البراق الذي يستهوي الجماهير واستمر نظام حزب البعث في أدبياته ووسائل توعيته يوصي الناس بالوحدة والتقدم والديمقراطية وحكم الشعب !!
وعلى مرمى حجر من ارض الشام كانت الجمهورية العراقية كيان سياسي جديد يعلن على أنقاض ملكية اولاد الشريف حسين ، ليستلم بعد سنين قليلة حزب البعث الاشتراكي ايضا حكم هذا البلد العربي الكبير بكل مقوماته الهائلة في الثروات المتنوعة، ويحاول البعثيون في العراق منطلقين من توجهاتهم القومية والاشتراكية البحث عن مفاهيم الوحدة والديمقراطية عبر نشر أفكار الحزب وخلاياه في كل بقاع العالم العربي ، حتى اصطدمت احلامهم وانهارت بأحداث غزو الكويت .
اما الجمهورية العربية الرابعة من جمهوريات آسيا فقد كانت اليمن والذي كانت ثورته في بداية ستينات القرن الماضي من اكبر ثورات العرب التي ألهبت حماس الجماهير حيث استطاع اليمنيون ان يقضوا في ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م على اكبر نظام كهنوتي امامي داخل المنطقة العربية واضافوا خلال سنين قليلة إنجازهم الكبير للاستقلال الوطني وخروج المستعمر الانجليزي من عدن ليتمكن حكام عدن وصنعاء رغم التباينات التي كانت بينهم من إنجاز حلم من احلام العرب في الوحدة وإعلان الجمهورية اليمنية في نهاية القرن الماضي .
كانت فكرة الجمهورية في المنطقة العربية فكرة براقة وعلى وجه الخصوص خلال العقود الثلاثة من منتصف القرن الماضي ، ولقد اكتسبت زخمها الكبير على اعتبار انها حلم الملايين من المواطنين الذين وجدوا أنفسهم عبيدا لأقلية استبدادية تتسلح بالطائفة والمذهب وعلاقتها بالمستعمر لتحرم مواطنيها من ابسط حقوقهم بالحرية والعيش الكريم ، وعندما بدأت وسائل التواصل في التأثير في حياة الناس من خلال المذياع ، والتطور الذي حدث في مجالات النقل المختلفة ، كل ذلك شد انتباه الجماهير الى ان هناك شعوبا تنعم بمزايا التعليم والصحة وحق العمل وحق الانتخاب وغيرها من الحقوق مما تحرمهم منه الأنظمة القائمة آنذاك ، بل والأنكى من ذلك كله ان المواطن كان يولد ويموت وهو لايعرف الا ذلك المستبد الذي يظلمه ، وكانت الوراثة هي طابع تلك الأنظمة التي حرمت مواطنيها من ابسط حقوقهم وكان يرى المواطن انه بثورته على هذه السلطات وإعلانه الجمهوريات الجديدة ستنتهي كل مشاكله وسينال حقوقه وسيحكم نفسه بنفسه وينعم بالعيش الرغيد ، بل انه ظن ان حلمه الكبير في استرداد مقدساته قد غدا قاب قوسين أو أدنى .
واليوم ونحن نعيش هذه الأحداث المؤلمة التي تعصف بهذه المنطقة وعلى وجه الخصوص بلداننا في هذا الجزء من قارة آسيا ، ونرى الدمار قد اصاب البنيان والإنسان ، نتساءل
ماذا بقي من الجمهوريات العربية التي أعلنت ابتداء من أربعينات القرن الماضي ؟
والى أين وصلت الشعارات الاخاذة التي كنّا نسمعها صباح مساء ؟ ولماذا انتجت تلك الأنظمة هذا التوحش والصراع ؟ وهل تم الخلاص من أفكار التوريث والاستبداد ؟ والى أين وصلت الاشتراكية ودعوات العدالة ؟
أين هذه الجمهوريات اليوم من احلام جماهيرها ؟؟
ابن شعارات الجمهورية وحكم الشعب ؟؟
أين حقوق الحرية والمساواة ؟؟
أين شعارات العزة والكرامة ؟؟
أين الادارة والتنمية والديمقراطية ؟؟
أين مشاريع الوحدة والتظامن والأمن القومي ؟؟
بل أين المؤسسات التي كان يلقن المواطن انهامؤسساته أين هي اليوم ؟؟
هل هي لاتزال منحازة للموطن وحقوقه ام انقلبت عليه ؟؟
والإجابات على هذه الأسئلة مريرة مريرة !! فرغم كل التضحيات التي قدمها المواطن خلال سبعين عاما وتحمله كل الكلف الباهظة من قوته وحريته وخدماته الا انه لم يشعر بالامن والامان !! وانكشف الامر على ان الجمهوريات أوراق ملونة تداس بالإقدام عندما تتعارض مع نزوات المستبدين !! وراينا في اوطاننا كيف ان حكم الشعب هو حكم الفرد الحاكم الذي يظل حاكما مدى الحياة !! راينا الجمهورية وحكامها في نسل هذا الحاكم واحدا بعد الاخر !! ولا معنى للديمقراطية الا ببقاء الحاكم الفرد وأفراد أسرته ، رأينا ان حقوق الحرية والمساواة لا يتمتع بها الا الأقوياء المستبدون !! وانحصرت هذه الحرية والمساواة في أشكال استهلاكية لا صلة لها البتة بالعدالة وتكافؤ الفرص وانتشار الخدمات !! ومع الاستبداد كانت المطالبة بالعزة والكرامة نوع من الترف !! ونسي المستبدون ان اول شعاراتهم كانت ، انهم يريدون للناس العزة والكرامة !
اما مشاريع الوحدة فهاهي هذه الدول تفتت وتمحى مدنها ويهجر سكانها على يد مستبديها ، ويُعبث بكل ماسموه مسلمات على أيدي الورثة ولم يسلم من الوراثة شيء بل انها استشرت في المنظومة السياسية حتى تم توريث احزاب اليسار ' واستشرت في المؤسسات السيادية حتى تم توريث المناصب في وزارت الدفاع والداخلية والخارجية ، واستشرت في الاقتصاد و رأينا الأبناء في أقبح صور الآباء وهم يسطون على كل الموارد ويحرمون الناس من تنمية حقيقية ، ولم تسلم منهم حتى لقمة الفقير .
لا عجب بعد ذلك ان نرى هذه المشاهد التي تقتل فيها هذه الجمهوريات العربية مواطنيها بالجملة ، لأعجب ان نرى هذه المجازر بايدي المؤسسات التي كان يظن المواطن انها بنيت له ولأمنه وحمايته ، لا عجب ان نرى كل الوحوش التي كنّا نعتقد اننا تخلصنا منها ذات يوم قبل سبعين عاما تعود بانعزاليتها وطائفيتها ومذهبيتها في أقبح صورها لتسحق كل مايقابلها حجرا وبشرا ، لأعجب ان نرى هذا التمدد الطائفي الأعمى في لبنان وسوريا والعراق واليمن وهو يعربد باحثا عن مزيد من الضحايا ، لا عجب فما عشناه في جمهوريات آسيا العربية كان حتى اللحظة خدعة وسرابا ولم يكن جمهورية !!
مهندس وحيد علي رشيد
11 ديسمبر 2016