عارف أبوحاتم
قبل قيام ثورة سبتمبر اليمنية في 1962 بسنتين كان الروس قد وصلوا القمر، فيما كان إمام اليمن وطاغيته يحيى حميدالدين يقول لشعبه إن الكرة الأرضية معلقة بقرن ثور، ويخفي مذياعه في سلة معلقة وسط الغرفة ويقول للناس أن هذا صوت الجن الذين يستطيع التحكم بهم، ويجلس على كرسي الخيزران الهزاز ويقول لهم تحركني الجن… ويصدقون!.. فكل فرد لا يعرف أكثر من قريته، وأكثرهم معرفة من زار عدن ورأى البحر.
وبعد ثورة سبتمبر ظل سكان العاصمة صنعاء لا يأكلون السمك لعدة أعوام باعتبارها “ديدان” لا يجوز أكلها، فالناس هنا في ظلم وظلام وعزلة كونية لا يعرفون من الدنيا غير الحقل والبهيمة وركبة مولانا الإمام التي يجب تقبيلها كركن لا يكتمل الإيمان إلا به.
كان الإمام أحمد قد أباح صنعاء للقبائل المتوحشة المحيطة بها 14 يوماً مقابل قضائهم على ثورة 48 الدستورية التي استفادت من مقتل والده الطاغية يحيى وأطاحت بحكم بيت حميدالدين ورممت البيت الإمامي من الداخل واستبقت حكم البطنين ونصبت عبدالله الوزير إماماً مع شيء من إصلاح أدوات الحكم، وفتح ثغرة بسيطة للحرية، ولأجل عودة سيف الإسلام أحمد أباح صنعاء لأهمج حملة قبلية في تاريخ اليمن، ومن يقرأ مذكرات الطبيبة الفرنسية “كلوديا فاين” “كنت طبيبة في اليمن” سيعرف فداحة المأساة وكيف هجمت قبائل محيط صنعاء على المدينة ونهبت كل شيء، باستثناء ملابس النساء!.
حتى النوافذ والأبواب نزعتها، وأوعية المطابخ والفراشات وملابس الأطفال والرجال والمواشي وحبوب الذرة سرقتها، وبعد أسبوعين من الهمجية والوحشية كانت صنعاء عبارة عن مساكن تنخرها الرياح، ليس في محلاتها شيء، وليس في بيوتها غير ملابس النساء، ولا تزال تلك الذاكرة السوداء هي ما يخيف أهالي صنعاء الآن من أي فلتان أمني، خوفاً من القبائل الموالية للحوثي والشرعية من تكرار مأساة 1948م.
في منتصف ستينيات القرن الماضي قال مغترب يمني أنه جاء من لندن إلى جدة بالطائرة، قبل أن يستقل سيارة إلى اليمن، وفي مجلس المقيل سأله الشيخ المتعالي ماذا يقصد بالطائرة؟!.. شرح له قصده ليكون جزاءه القتل الفوري لأنه “تعلم الطرطرة بالخارج وجاء يستهين بعقول الرجال.. كيف 200 نفر يركبوا داخل حديد يطير من لندن إلى جدة!”.
كان آل البيت الذين تعاقبوا على حكم اليمن بالقوة المسلحة الطاغية قد تعمدوا عزل اليمن عن العالم، وتغييب اليمني عما حوله، حتى أقتنع أن كل ما في الخارج خرافة وانحراف عن الدين!.
المشترك في مسيرة كل طغاة الإمامة من يحيى الرسي “الإمام الهادي” إلى عبدالملك الحوثي عدائهم الشديد لمنابر التنوير وفي مقدمتها المدارس والمساجد، والتحدث مع الشعب باستخفاف وبخل شديد، وتعمد سياسة التجويع وتعالي النسب، فالإمام يحيى الذي سرق كل خيرات البلاد وامتلك في جيبه كثير من أوقاف جبال ووديان اليمن، ترك الناس تموت جوعاً رافضاً أن يخرج لهم شيء من حبوب الذرة التي فسدت في مخازنه، وفي عهده عرف اليمن أسوء مجاعة في تاريخه.
وحين جاءت ثورة سبتمبر 1962 كان عدد المدارس النظامية في اليمن “صفر”.. فالتعليم هو العدو الذي يجب تحييده.
يكرر التاريخ مأساته، ولا تزال ذاكرة اليمنيين خضراء طرية تتذكر كل جرائم أئمة اليمن خلال ألف عام، وتجد أن كل ما يفعله الحوثي اليوم هو تكرار لجرائم أسلافه، واستنساخ لعقليتهم الحاكمة، فكل مدرسة ومسجد يصادف طريقه لابد من تفجيره، وكل جامعة لابد من تعطيلها أو تحويلها إلى منبر طائفي عنصري، والجيش لابد أن يتحول إلى حامي لدولة الفرد ويهتف باسمه، ووظائف الدولة العليا وثروات البلاد هي ملك حصري لذوي النسب الهاشمي، وتجويع الشعب هي سياسة متوارثة، فالجماعة الحوثية التي نهبت كل موارد الدولة وخزينتها وسرقت كامل الاحتياط النقدي الأجنبي المقدر بخمسة مليارات دولار، وأثرت قادتها، هي من خرج زعيمها يطلب من الشعب التبرع للبنك المركزي ولو بخمسين ريال (17 سنت).. ثم ينهب ما تبقى من مال الدولة وقوت الشعب دعماً للاحتفال بمولد الرسول الكريم!!.
ومثلما كان سلفه الإمام أحمد ينهب خزينة الدولة ويطلب من الشعب أن “يتقطرن” أي يضع أصباغ سوداء على وجهه وجبينه حتى لا تصرعه الجن، طلب عبدالملك الحوثي من الشعب أن يصبغ وجهه باللون الأخضر احتفالاً بمولد النبي، والذين صبغوا وجوههم بالقطران الأسود، ورّثوا جينات العبودية وظهروهم المنحنية لأحفادهم الذي اصطبغوا باللون الأخضر!.