درجت النخب اليمنية المؤطرة في أنظمة وتنظيمات سياسية على حد سواء على النظر إلى «وحدة اليمن»، و»استقلال الجنوب» على أساس أنها مجرد تكتيكات تخدم أهدافاً سياسية، ولم ينظر لأي من المفهومين في سياق استراتيجي مبني على مصالح قومية أو وطنية، أو حتى على رغبات شعبية غالبة رغم وجود هذه الرغبات. وعلى الرغم من أن الوحدة اليمنية كانت مطلباً شعبياً ملحاً لدى اليمنيين في الشمال والجنوب، إلى درجة محاولات فرضها بالقوة والحرب في فترات الحروب السابقة بين الشطرين قبل عام 1990، على الرغم من ذلك كله، إلا أن النظامين السياسيين في شطري اليمن تعاملا مع الوحدة من زاوية المصالح السياسية لا الوطنية. وعندما تم إنجاز الوحدة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كان واضحاً أن الوحدة كانت تمثل مخرجاً للنظام في الجنوب من مأزق سياسي وآيديولوجي واقتصادي، وكانت بالنسبة للنظام في الشمال مطمعاً سياسياً واقتصادياً في الوقت ذاته. عندما تم التعامل مع «الوحدة اليمنية»، وهي قيمة وطنية وقومية على أساس أنها هدف تكتيكي، وصلنا إلى إعلان الحرب في 1994، وهو المأزق الذي أشّر على أن نوايا النظامين كانت مبيتة لتحويل الوحدة إلى مزاد سياسي وبورصة مالية للأسف الشديد، الأمر الذي جعل بريقها يخبو في نفوس الذين احتشدوا ابتهاجاً بها في كل محافظات اليمن آنذاك. ويوماً بعد يوم يتضح أن الذين دعوا إلى الوحدة بين شطري اليمن سابقاً لأغراض تكتيكية بإمكانهم اليوم أن يدعوا إلى «استقلال الجنوب» للأغراض ذاتها، بحيث أصبح هدفا «الوحدة» و»الاستقلال» مجرد شعارين للسيطرة والاستحواذ، إذ أن هدف السياسي في المقام الأول هو حيازة السلطة والثروة دون النظر إلى مثالية المفاهيم، وقيمية المبادئ. في 1994 انفجرت الحرب بين قوات مؤيدة للحزب الاشتراكي اليمني بزعامة نائب الرئيس الأسبق علي سالم البيض حينها، وحلفائه من اليساريين، وقوات أخرى مؤيدة للرئيس السابق علي عبدالله صالح، وحلفائه من الإسلاميين. وعلى الرغم من أن مفاهيم «وحدة اليمن»، و»استقلال الجنوب» كانت مرفوعة كشعارات للحرب، إلا ان هذه الشعارات لم تكن في أصلها ترفع لتعني المفاهيم الحقيقية للوحدة والاستقلال. بمعنى أن علي عبدالله صالح وحلفاءه لم يكونوا معنيين في المقام الأول بوحدة اليمن، وإلا لما تصرفوا بشكل أساء أصلاً لهذه الوحدة، كما أن علي سالم البيض وشركاءه لم يكن معنيين بـ»استقلال الجنوب»، وهو الذي اندفع أصلاً للوحدة مع الشمال، ثم عاد للمطالبة بـ»الاستقلال» عندما وجد أن الحزب لن يحظى بأغلبية في «اليمن الموحد» توصله إلى السلطة. أثناء مشاركتي في مؤتمر الحوار الوطني الذي انتهى مطلع 2014، كنت أسمع ممثلي الحوثي في المؤتمر يحدثون ممثلي «الحراك الجنوبي» بأنهم يقفون مع مطالب الحراك في «تقرير المصير» في الجنوب، وأنهم مع الجنوبيين إذا اختاروا «الاستقلال»، وكان الحوثيون يريدون بالفعل حينها للجنوب أن ينفصل، لأن ذلك يقربهم من تحقيق هدفهم في السيطرة على الشمال، الذي يعتبرونه «إرثاً تاريخياً»، وهو ما صرح به عبدالملك الحوثي في لقائه في 2014 بالدكتور أحمد عوض بن مبارك أمين عام مؤتمر الحوار الوطني في حينه، والسفير اليمني في واشنطن حالياً، حيث قال الحوثي إن «الشمال حقنا». كانت تلك هي الحال قبل «غزو الحوثيين» عدن مطلع العام 2015، لكن الحوثيين الذين كانوا يحرصون على «استقلال الجنوب» قبل 2015 تخلصاً من «عبئه» عادوا ليرفعوا شعار «الوحدة أو الموت» بعد 2015 طمعاً في ثرواته. هذا التضارب في التعامل مع مفاهيم «الوحدة» و»الاستقلال» يؤكد أن هذه المفاهيم لم تكن يوماً من الأيام في مركز اهتمام النخب السياسية في اليمن، إلا بقدر ما تستفيد هذه النخب منها سياسياً واقتصادياً. السلطة والثروة هما الهدف الأسمى للنخب السياسية اليمنية، وهما الأصل في تكتيكات هذه النخب، وإذا جاءت السلطة والثروة من بوابة الوحدة، فهذه النخب «وحدوية»، وإذا تعسر الوصول إلى سلطة اليمن وثرواتها عن طريق الوحدة، فإن راية المطالبة بـ»الاستقلال» جاهزة، والهدف أولاً وأخيراً سياسي اقتصادي لا قِيَمي مبدئي.
المشكلة أن الجمهور اليمني مغيب عن حقيقة هذه الأهداف التي ترفع لمخاتلته من قبل ساسة أدمنوا خداع الجماهير، وأتقنوا لعبة استثارة المشاعر لدى العامة لتأليبهم تحت رايات مبدئية لا ترفع أساساً لأجل الأهداف التي تعلن عنها، ولكن لخدمة أجندات سياسة تكتيكية لنُخَب سياسية فاسدة، وتوجهات عصبوية لا علاقة لها بطموحات الجماهير التي تلبي دعوات الخداع أكثر مما تعرف مصالحها المعيشية في حياة أفضل.
دعونا نقول بوضوح: هناك في جنوب اليمن وشماله «مربعات سلطوية» انفردت بحكم اليمن جنوباً وشمالاً على مدى سنوات بعد «استقلال الجنوب» عن بريطانياً، و»تحرر الشمال» من حكم الأئمة، وقبل تاريخ الوحدة اليمنية في 1990، والمشكلة ليست في الوحدة، كما أن الحل لن يكون في «استقلال الجنوب» عن بريطانياً، و»تحرر الشمال» من حكم الأئمة، وقبل تاريخ الوحدة اليمنية في 1990، والمشكلة ليست في الوحدة، كما أن الحل لن يكون في «استقلال الجنوب»، ولكن المشكلة والحل موجودان لدى تلك «المربعات السلطوية» التي شكلت مع الزمن ما يمكن أن يطلق عليه «الحق الوطني المقدس» في سلطة اليمن، الذي يوازي «الحق الإلهي المقدس» الذي ادعاه الأئمة. هذا «الحق الوطني المقدس» الذي تؤمن به «مربعات السلطة» في المناطق الجبلية المحيطة بصنعاء وعدن هو جزء كبير من المشكل، وكما يكافح اليمنيون اليوم للتخلص من المقولات الدينية القروسطية المتمثلة في «الحق الإهلي»، فإنهم لا بد أن يعملوا – كذلك – على تفكيك مقولات «الحق الوطني»، لأنه كما يَحصُر «الحق الإلهي» السلطة والثروة في «سُلالة بشرية» بعينها مستنداً إلى «نصوص دينية»، فإن «الحق الوطني» يحصرهما في «مناطق جغرافية» بعينها مستنداً إلى «تقاليد سياسية». وبما أن «الحق الإلهي» خرافة ابتدعها «سياسي انتهازي» في صورة رجل دين، فإن «الحق الوطني»، أسطورة كرسها «مناطقي عصبوي» في ثوب رجل سياسة. عندما تتخلص «السُلالة» من فكرة «الحق الإلهي»، وتتخلص «الجغرافيا» من فكرة «الحق الوطني»، فإننا، حينها، يمكن أن نقرر أن السلطة ليست بوصية من الله، ولا بتعليمات من الجغرافيا، ولكنها بـ»انتخاب» من الشعب. وحينها سيزول «الانحباس السياسي» في اليمن، وستتدفق الدماء في عروق السياسة، وستضخ الأموال في عصب الاقتصاد، ولن يخرج بعدها «انتهازي سياسي»، ولا «مناطقي عصبوي» ليوهم الناس بشعارات «الوحدة والاستقلال»، ليصرفهم عن أهدافه الحقيقية في السلطة والثروة. ولأن مخرجات الحوار الوطني صاغتها مكونات سياسية من مختلف شرائح اليمنيين، كان طبيعياً أن يأتي في مقدمة هذه المخرجات اعتماد «نظام الإقليم»، الذي يعد وسطاً بين «التطرف المركزي» و»التطرف الانفصالي»، هذا النظام الذي شكل خطراً على مجاميع «الحق الإلهي» و»الحق الوطني» في الشمال والجنوب، مما أدى إلى انفجار حرب 2014، رغبة من هذه المجاميع في العودة إلى السلطة والثروة، مرة تحت «علم الوحدة»، ومرة أخرى تحت «راية الاستقلال»، حيث لا تزال تلك المجاميع – شمالاً وجنوباً – ترفض «نظام الأقاليم»، لأنها تراه خطراً على طموحاتها في الاستحواذ على السلطة والثروة في البلاد. أخيراً: الساسة الذين رفعوا علم «وحدة اليمن» أمس لم يكونوا وحدويين حقيقيين، والساسة الذين يرفعون راية «استقلال الجنوب» اليوم ليسوا استقلاليين مخلصين، و»الوحدة» و»الاستقلال» مجرد شعارين يخبئ هؤلاء الساسة تحتهما أهدافهم السياسية في سلطة البلاد وثروتها.
أما الجمهور فمهمته أن يمهد الطريق للأهداف السياسية للفريقين، بالاحتشاد والتصفيق.