مرت الذكرى الثانية لتحرير عدن بصمت .. عدا الصخب الذي نجم عن تلك المحاولة الدموية لاقتحام فرع البنك الأهلي اليمني في حي عبد العزيز بعدن.
أحياناً ترتب الحياة أحداثها بالطريقة التي بعث الله بها الغراب " ليريه كيف يواري سوأة أخيه".
حملت هذه الحادثة عنوانين بارزين للتناقض السلوكي الذي أفرزته سنوات التهميش والرفض والمقاومة في هذه المدينة التي شكلت ذات يوم قاطرة الانطلاق نحو العصر لليمن بأكمله قبل أن تدهمها تلك التبدلات التي أخرجت القاطرة من القضبان لتنتهي إلى حيث تم تفكيكها وبعثرة أجزائها بين "داحس والغبراء" .
أما العنوان الاول ، والذي تمثله العصابة التي اقتحمت البنك، فهو ما رتبه التهميش الذي ابتلع المدينة داخل تضاعيف من اليأس والاحباط والإفساد وتكريس الأمية والجهل والضياع وسط جيل كامل ، مع ما مارسه نظام صالح من صعلكة وتخريب على كافة المستويات بوجه ملفوف بخرق التاريخ البالية والمستهترة ، ومحاولة تقديم النمط الاخلاقي الذي حكم به كنموذج للسلوك الذي يجب أن يعاد تربية الأجيال بقواعده .. ثم جاء الحوثي بجحافله ليستكمل حلقة الصعلكة الشريرة ، ولكن بعين حمراء ، وأطلق ما تبقى من أفاعي من جراب المدربين على تخريب الحياة وتفكيك الروابط في تماه تام مع تاريخ من التهافت العصبوي والانتقامي ، الذي لا يتوقف عند محطة بعينها ، ولكنه يستجمع التاريخ في لعبة الموت والتخريب في كل مرحلة يقرر فيها أن يمارس اللعبة .
أصبحت هذه الصعلكة أحد العناوين التي توسعت ممارستها داخل مجتمع فتحت فيه الأبواب على مصراعيها لكل من يريد أن يجرب حظه في الزعامة والشطارة .. وكانت النتيجة أن تكونت العصابات لتماثل في سلوكها نمط الإثراء السريع الذي مثله نظام صالح ، ثم الحوثي مؤخراً ، باعتبار الجميع نظاماً مركباً ينهل من موروث إجتماعي وثقافي وأخلاقي مشترك . والعصابة إياها هي نموذج لهذا النمط من الموروث الاخلاقي .. أما الدلالة التي يمكن أن تقرأ من توقيت الحادثة فهي أن العصابة ، ومن وراءها ، أرادوا أن يقولوا إن تحرير عدن يؤرخ لمرحلة قادمة يسودها هذا النمط من النظام الاجتماعي والاخلاقي المتجذر بقواعد النظام السياسي الفاسد الذي انتهى إلى تدمير عدن، وأن على الذين يهتفون لتحرير عدن أن لا يبالغوا كثيراً في تعظيم التحرير لأنه شكلي لا يقدم أي دليل على انعتاق كامل من بؤس ذلك النظام .
غير أن العنوان الآخر المقاوم لهذا النمط السلوكي والاخلاقي المنحط جاء من قبل مدير الفرع والحارس وبقية موظفي الفرع ، الذين قدموا نموذجاً مختلفاً لنمط آخر من السلوك الاجتماعي والاخلاقي الذي نشأ مع مقاومة الاستبداد والإفساد والصعلكة ، وفي إطاره انبثقت مقاومة الاجتياح العسكري الغاشم لعدن حتى تحررت .. وكان لا بد أن يكون لهذا التحرير مضمونه الاجتماعي والاخلاقي الذي يمثل روح المقاومة الأصيلة . أعاد هذا النموذج للمقاومة جوهرها ومعناها في تناسب موضوعي مع التضحيات الكبيرة التي قدمها الشهداء على مذبح الحرية ، وهي الرسالة الهامة هنا بمناسبة تحرير عدن والتي مفادها أن هذه الحرية لم تكن شكلية ، كما أرادها صعاليك الفساد .. ولكنها الحرية التي تحمل معها نشوء جيل وفي لروح المقاومة ، ومتمسك بذلك النمط من السلوك الاجتماعي والاخلاقي الذي تدور اسباب التمسك بِه مع علة التضحية التي قدمها أؤلئك الشهداء من أجل الوطن .. من التحرير ، إلى استكمال التحرير ، إلى البناء .. ولا يتوقف عند حد معين .
كانت الذكرى الثانية لتحرير عدن تستحق أن يحتفى بها شعبياً ورسمياً على نطاق واسع ، ولكن هذه الحادثة بعنوانيها النقيضين تكفي لنقف أمامها بتمعن ونقرر طبيعة الاحتفال العام القادم باْذن الله .