عمار بن ناشر العريقي
يحذرنا نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم مايترتب على وقوع الأمة في آفة (الشح ) من هلاك ودماء ودمار وجرائم وآثام -كما يشهد على ذلك واقعها المؤلم - فيما ورد في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم : ( ... واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم )،وفي رواية عند أحمد وأبي داود ( ..أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا ).
ولذلك فقد كان الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه يقتصر على الدعاء في طوافه بقوله: (اللهم قني شح نفسي ) معللا بقوله : "إنني إذا وقيت شح نفسي لم أزن، ولم أسرق، ولم أفعل شيئا" كما ذكره الإمام ابن جرير في التفسير.
ولاينحصر معنى (الشح ) فيما ينحصر فيه عرفا على معنى البخل بالمال عن بذله في أوجه الاستحقاق والخير، وإن كان هو الغالب في الاستعمال.
"أرى الناس خلان الكريم ولم أر
بخيلا له في العالمين خليل ".
" وإن كثرت عيوبك في البرايا
وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب
يغطيه كما قيل السخاء ".
بل يشمل الشح كل اوجه البخل بالبر والمعروف، وقد ورد في قوله تعالى عن المنافقين (أشحة عليكم ) مايشمل الشح بالخير عامة.
ومن الشح بالخير : الشح بالعلم عن تعليم الناس ودعوتهم به، والشح بالبدن عن مساعدة المحتاجين، والشح بالنفس في بذلها في سبيل الله تعالى، والشح بمحاسن الأخلاق عن التعامل بمقتضى الرحمة والعفو والتواضع ونحوها، والشح بالوجاهة والرئاسة حيث يحبسهما عن نصرة الحق والأمة.
وفي معنى آفة الشح: آفة (البغي ) ومايتفرع عنها من مشكلة تفرق الأمة وتنازعها وضعفها كما قال تعالى : (وماتفرقوا إلا من بعد ماجاءهم العلم بغيا بينهم ).
وعليه فليس(الجهل) وحده هو سبب التفرق بنص الآية الكريمة وإنما (البغي ) بما يشمله من معاني الكبر والظلم والعدوان وحب الرئاسة والصدارة .
"حب الرئاسة أطغى من على الأرض
حتى بغى بعضهم على بعض ".
كما لم يكن( الفقر) وحده سبب هلاك الدول والأمم كذلك، ولكنه (التنافس على الدنيا ) بنص مارواه البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم : (والله مالفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتكم ).
"فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها "
ويرجع سبب ذلك إلى التعلق بالدنيا في مقابل الغفلة عن الله والآخرة (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ) وبسبب سوء الظن بالله والجهل به وضعف الإيمان بالقدر وخوف الفقر (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم ) وبسبب ضعف الإيمان وتلوث النفس بأمراض الحسد والحقد والكبر (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولايجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )
والمقصود بالتنافس على الدنيا: التباري على الرغبة المفرطة فيها والاستئثار بها والمخاصمة المستمرة على متاعها وعرضها الزائل والاشتغال الدائم بالسعي في طلبها والغفلة عن إدراك أن حظوظها تجري بالمقادير (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا...).
إن الشح بالبغي والأنانية والتنافس على الدنيا والصراع على السلطة والمال سبب هلاك الأمة بنص الأحاديث الشريفة، وبداية الحل والتغيير بتزكية الأنفس المريضة والضعيفة من هذه الآفات الأخلاقية الخبيثة،وهي عملية تحتاج إلى كثير صدق وبذل وتضحية ووعي وإيمان ومجاهدة وتربية .ونستغفر الله من فتنة وآفة القول بلا عمل، والله الموفق والمستعان.