من يقرأ الواقع السياسي لليمن وفقًا للمعطيات السياسية والعسكرية على الأرض قراءة متوازنة ومحايدة بعيدًا عن الخطاب الإعلامي القائم على التحذير والتبشير،والتخوين والتخوين المضاد، وكيف تحولت مجريات الصراع من صراع مع الحوثيين إلى صراع في إطار منظومة التحالف نفسها ؟ وتحوّل الهدف الذي جاء التحالف من أجله إلى قضية مؤجلة،بعد أن قدَّم كل طرف من الأطراف الإقليمية، والمحلية معركته الخاصة على المعركة العامة .
مما أدَّى إلى توقف كل الجبهات التي ظلت مشتعلة مع الحوثيين شمالًا ليتحوَّل مسار الصراع السياسي والعسكري جنوبًا نتيجة لاحتدام صراع النفوذ بين الأطراف المحلية والإقليمية للسيطرة على المناطق المحررة، مما زاد المشهد تعقيدًا في بلد ظل الثابت الوحيد فيه هو الصراع منذ الأزل .
وجد التحالف نفسه فجأة أمام تركة ثقيلة من التراكمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عكست بظلالها على كل الصعد العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإنسانية داخليًا وخارجيًا، مما ضاعف من تبعات الحرب في ظل حالة من الاستقطاب الإقليمي، والترقب الحذر للمجتمع الدولي .
ووجدت المملكة نفسها تقود تحالفًا أشبه بتوليفة من المواد الخطرة كلما حاولت جمعها انفجرت؛لتعود بعد انشطارها إلى أصلها الذي كانت عليه .
انطلقت العاصفة قبل مايقرب من خمسة أعوام في تحالف ضَمَّ أكثر من عشر دول، معلنة حربًا شاملة على امتداد رقعة الأرض اليمنية، لينتهي بثلاث دول فقط ،يتكون قوام القوات المحاربة على الأرض من أفراد القوى المحلية ذات التوليفة المتناقضة،والأهداف المختلفة، في حين اقتصر دور دول التحالف على الدعم اللوجستي والغطاء الجوي،مع تدخل محدود لقواتها في مناطق بعيدة عن نقاط التماس،اقتصر دورها على الإشراف وتوجه مسار المعارك ،ولم تختبر قواتها في أي معركة حقيقية على الأرض سوى مرة واحدة خسرت الإمارات في يوم احد فقط أكثر من أربعين جنديًا من قواتها في محافظة مارب ،وهذا كان بمثابة جرس إنذار مبكر ينذر بخطورة المغامرة في بلد معقد التضاريس،وبيئة اجتماعية أكثر تعقيدًا .
فاقم طول أمد الصراع وألقى بظلاله على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية،والإنسانية تصاعد بدأ معه كل طرف من الأطراف المحلية بمراجعة حساباته نظير ما قدمه من فاتورة مُكْلِفة من الضحايا والمواقف،وبدأت هذه القوى تحت تأثير الضغط الشعبي لقواعدها في ظل حالة من عدم الثقة فيما بينها كلما اقترب التحالف من أحكام قبضته على رقبة الحوثي،أوكاد يكبح جماح مشروعه؛وما معركة السيطرة على ميناء الحديدة عنَّا ببعيد .
ومع كل تقدم للتحالف كان هناك سؤالًا ملحًا يؤراق كل طرف من الأطراف المحلية ما هو الدور المستقبلي الذي ينتظره ؟ وأين سيكون موقعه من الإعراب؟ إذا ما نجح التحالف في إعراب جملة اليمن الصعبة .
استبَّد خوف هذه القوى من بعضها نتيجة للعداء المستحكم فيما بينها؛ خلق حالة من الشك والريبة لديها تجاه التحالف نفسه، شك انعكس على أدائها السياسي والعسكري،نجم عنه إعادة تموضع كل منها،من خلال نسج تحالفات جديدة تقوم على مبدأ تقديم الخاص على العام، ليشرع كل طرف في تنفيذ أهدافه تحت سقف شعار عودة الشرعية الذي يعد بمثابة العقد الكاثوليكي الذي يربطها جميعًا بدول التحالف،ويربط دول التحالف بها.
مع بدء إعادة التموضع للقوى المحلية حتَّم على كل منها أن تذهب منفردة لنسج تحالفات جديدة مع التحالف كدول هذة المرة وليس كمنظومة، على حساب الهدف الذي قام عليها التحالف الذي بات في نظر الجميع مستهلكًا .
عند هذه النقطة تَقَسَّمَ المُقَسَّمُ،وأن شئت قل: قُسِّمَ المُقَّسَّمُ؛ فلامشاحة في الاصطلاح هنا، بقدر مايهمنا متابعة المعطيات وما ستقودنا إليه من النتائج.
خرج المؤتمر الشعبي العام من عباءة الحوثي موحدًا متماسكًا،تماسك لم يدم سوى ثلاثة أيام فقط انتهى بمقتل صالح إلى كيانات متعددة، ليجد نفسه موزعًا على خمس عواصم الرياض،وأبوظبي،وصنعاء، وعدن، والقاهرة،وانقسم الحراك الجنوبي إلى عدة مكونات سياسية حتى أن المتابع لعملية تناسخها وتناسلها يعجز عن حفظ أسمائها،وبقي حراك باعوم الوحيد الذي يغرد خارج فضاء التحالف،تحاصره تهم التشكيك بالولاء لإيران حتى تكاد تخنقه رغم مسيرة زعيمه،وصلابة مواقفه.
واحتفظ الاصلاح بتماسكه،وظل الحزب الوحيد ضمن توليفة التحالف الذي لم يطاله التقسيم، نتيجة لبنائه التنظيمي المحكم،وبراعته في إدارة المتناقضات الإقليمية وفقًا لقاعدة أعطني بعضًا مما عندك أعطيك بعضًا مما عندي .
برجماتية الاصلاح جعلت منه قوة سياسية مُشْرَعة الأبواب، متعددة النوافد،بعكس بقية القوى السياسية الأخرى التي تشطَّرت، ويممَّ كل فصيل منها وجهه شطر عاصمة ،وجمع بيضه في سلة واحدة فقط، مما جعل مهمتها في التحليق متعذرة في فضاء ملبد بغيوم التناقض،بعد أن طحنتها رحى الصراع الداخلي،والاستقطابات الإقليمية.
هذا كله أوصل الرياض إلى قناعة تامة بفشل خيار الحرب،وصعوبة الاستمرار في الصراع بصف مهلهل،لذا سارعت إلى فتح مسارات تفاوضية بوساطة عمانية بين الرياض وصنعاء،وأخرى كويتية لتقريب وجهات النظر بين الرياض والدوحة،لتختصر الطريق على نفسها،مراهنة في ذلك على سيطرتها وقدرتها على إدارة صراع الضعفاء المتمثل في القوى المناهضة للحوثيين من جهة،ووضع الحوثيين- الذين أنهكهم عامل الزمن - أمام الأمر الواقع مقابل التزام الحوثيين بقبول جملة من الشروط في مقدمتها منطقة منزوعة السلاح بمسافة أربعين كيلو في العمق اليمني على طول حدودها مع اليمن،وحكم ذاتيا للجنوب في إطار دولة اتحادية من إقليمين، أو أكثر يكون فيها الجنوب إقليمًا مستقلًا لتبقى فزاعة فصل الجنوب سيفًا مسلطًا على رقبة الحوثيين وبقية قوى الشمال في حال إخلالها ببنود الاتفاق،أو حاولت التنصل عنه مستقبلا؛وبهذا تكون ضمنت لنفسها الاستمرار في التحكم بالمشهد السياسي اليمني،لحماية مصالحها في اليمن،وإدارة مصالح القوى الدولية التي تحارب عنها بالوكالة .
سعيد النخعي
القاهرة 19/ديسمبر/2019 م