احمد ناصر حميدان
ما حدث في كريتر , جريمة مركبة , الى جانب القتل واستهداف البشر , والدمار الذي أصاب الممتلكات العامة والخاصة, مدينة كريتر هي المدينة التاريخية , التي تحتوي على معالم وكنوز اثرية وتاريخية , هي المركز التجاري العتيق, وفيها أسواق تاريخية تحكي حكايات حضارة واصالة عدن , تجعل منها قطعة اثرية ثمينة , وموقع تراثي هام , يفترض به محمي من قبل الدولة والمعنيين بالتراث والآثار والمعالم , من مراكز بحوث ومنظمات محلية ودولية , وعلى راسهم اليونسكو.
هذه المدينة التي تعرضت وتتعرض في كل احداث الصراع , لاستهداف خاص , باعتبارها تمثل نبض عدن التاريخي , وجذرها الممتد في عمق التاريخ , بما تحتويه من أعراق وثقافات ومعابد و بغد , وأحياء سكنية يتعايش فيها أحفاد الهنود والصومال واليهود والبنيان والطليان والعرب , تشكل فيها نسيج عدن المتجانس , استهدافها هو تطهير ثقافي وفكري وتراثي , يقوده العقل الشمولي القادم من أغوار التخلف , وصحاري وجبال العصبية , الفاقد للأصالة والتاريخ , الذي يخشى الذاكرة التاريخية التي تشعره بحجمه الطبيعي , كقزم أمام تاريخ وأصالة عدن , شعور كم هو ضحل و مأزوم أمام ذلك التاريخ والتراث والثقافة المدنية , فالمكان يشكل له كابوس يفضحه , ويحاول ان يقتل كل ما فيه من ذاكرة تاريخية , ويجرف كل ارث , في محاولة نزع القيمة الحقيقية للمكان .
عندما صرخت عدن, رددت جبلها صدى ذلك الصراخ , تلك الجبال الغنية بالمعالم والشواهد التاريخية , وصل صدى ترددها لمسامع الحاقدين على عدن , من دول الجوار وأدواتهم في الداخل , كان لابد ان يصمت ذلك الصوت المرعب للمستبد والشمولي , وأن تنتزع القيمة الحقيقية للمدينة , وتستهدف معالمها وارثها والقها وايقونتها , وذلك بهدم المكان او تحييده حتى لا يبقى يذكرهم بحجمهم الحقيقي , أقزام أمام تاريخ عدن الحضاري والسياسي والاقتصادي , الذي لازال يشكل هاجسا مرعبا إذا ما صحى من سبات المؤامرة , وتجاوز التحديات , ونهض وارتقى وعادت عدن .
العقل الشمولي, هو أساس التطرف , ويمكن ان يقود عمليات اعدام جماعية لكل ما يختلف معه وعنه, ليصنع له هيلمان , ويخرج من حقيقته كقزم دنئ , ينفخ في شخصيته الخاوية شيئا من ذلك الهيلمان الذي لا أساس تاريخي ولا حضاري, ولا فكري وثقافي يدعمه .
فحماية التاريخ والتراث هو جزء لا يتجزأ من حماية الأرواح البشرية، ما لم تكن إعدام التاريخ والتراث هو إعدام للهوية والشخصية الجامعة , هو اعدم جماعي, بعكس استهداف الأفراد, المدان دون شك , لكنه يشكل استهدافا أقل فظاعة وخبث ودناءة من استهداف التاريخ والتراث والحضارة والثقافة .
المتابع لأحداث عدن منذ ان أعاد التحالف تموضع ادواته فيها , يجد ان هناك استهداف مبرمج , لثقافة وهوية وحضارة المدينة, وايقونتها وألقها , استهداف المعالم والشواهد التاريخية , تدمير الإرث الثقافي والفكري والنضالي, استهدف اتحاد العام لعمال الجمهورية , وافراغه من محتواه الحقيقي , وتاريخه كمركز نمو وترعرع نواة الحركة الوطنية , استهدفت صحيفة ومطبعة صوت العمال , ثم استهدفت صحيفة 14 أكتوبر الغناء وما تمثله لعدن , وقبلها استهدفت صحف مستقلة غير محمية عسكريا من قوى العنف القائمة , لم تعد ترى او تسمع غير الصوت النشاز, الذي يزور التاريخ , ويخون , ويقصي, ويهمش , ويستحوذ, يبسط وينهب ويقتل ويعمل ما يحلو له دون حساب وعقاب, القضاء معطل, والتعليم يتذبذب بين اضراب وتهديد و وعيد, كلها سياسات تستهدف عدن كهوية وتاريخ وارث وفكر وثقافة , البقية تفاصيل العملية, وخطوات تنفيذها .
فهيهات عدن عصية, لن تستسلم, تمرض تعاني, لكنها لا تموت, ستنهض من بين الركام , وتعيد بناء اطلال ما خلفته الحرب , سيذهبون جميعا بخزي وعار , وستبقى عدن تشع ثقافة وفكر وحضارة على مر التاريخ .