كان متوقعًا أن يكون كأس العالم هذه المرة مختلفًا عن كل نسخه السابقة منذ بداية تأسيسة قبل ما يقارب قرن كامل. أما لماذا هو مختلف، فيكفي القول : لأنه في قطر. ليس في هذا الجواب أي اختزال أو تحيّز مسبق لقطر. بل هذا ما تؤكده كل الوقائع منذ ما قبل انطلاق المونديال وزاد الأمر تأكدًا بعد انطلاقه وما تزال قطر تبهرنا كل يوم أكثر.
يبدو كأس العالم هذه المرة حدثًا كونيًا واسعًا وتحظى وقائعه بحيوية عالية. لربما لأنه يحدث في بلاد العرب ما يجعله أكثر قدرة على خلق حراك واسع ويشد الجماهير بقوة أكبر، ذلك أن طبيعة الإنسان أن يكون مشدودًا للحدث طالما كان قريبًا له. لهذا يغدو القول : إنه مونديال العرب. توصيفًا دقيقًا وليس مجرد دعاية سياسية كما قد يظن البعض.
تمكنت قطر أن تنظِّم مونديال يتجاوز كل التوقعات الغربية، ولهذا وجد البعض أنفسهم غير مستعدين للاعتراف بنجاحها القياسي، وحين عجزوا عن التقاط مثالب لها؛ تخفض من درجة نجاحها. ذهبوا لخلق وقائع جانبية بهدف صناعة تشويش مواز للمونديال. هذا دليل بؤس وليس فيه أي ذكاء لتقويض الخصم.
مجرد الحديث عن المثلية وحقوقها في معرض مناقشة وقائع كأس العالم، هو دليل حاسم عن عجز المتربصين بقطر. عجزهم عن العثور على مواضيع ادانة يثبتون بها جوانب تقصير قطر في رعايتها للمونديال. لهذا ذهبوا بعيدًا في استدعاء قسري لموضوع لا علاقة له بالنشاط الرياضي، باستثناء كونه موضوع جانبي جدا.
باعتقادي أن الجماهير الغربية في حالة ذهول وإعجاب كبير بالواقع الذي رأوه في قطر، الجو العام المرافق للمونديال، وسوف يتكشف ذلك خلال ما تبقى من زمن المونديال وما بعده، ستخرج أصوات كثيرة؛ تكشف انطباعاتهم الجوهرية عن هذه النسخة المميزة من كأس العالم.
لذلك ليس علينا أن نتخذ من الحكايا الهامشية المفتعلة، كما لو كانت معيارًا للتقييم الشامل للمونديال. وأعني هنا تلك الحركة التي قام بها منتخب الألمان، تكميم أفواههم احتجاجًا على منع قطر لهم ارتداء شعار المثلية. على أن سلوك قطر هذا لم يكن خرقًا لأي اتفاقية مسبقة بينها وبين الفيفا، بل على العكس كانت قطر واضحة معهم من البداية. لكنهم تعاملوا بعجرفة تكشف استهتارهم بقيم البلد المضيف ما يفترض أن يشعروا معه بالخجل من أنفسهم وليس قطر.
انتصرت قطر سياسيًا وإداريًا، بنجاحها في كسر كل التوقعات السلبية حول قدرتها على تنظيم المونديال وانتصرت قوميًا بتمكنها من استضافة أول نسخة منه على أرض عربية واذكاءها للوجدان العربي وتأكيد جدارته بأن يكون قبلة للعالم. وانتصرت أخلاقيًا وقيميًا بتمسكها الصارم بمعاييرها الأخلاقية وبلياقة جديرة بالإعجاب.
لا يمكن للعالم كله أن يدين قطر من هذه الزواية، وتحديدًا صرامتها الأخلاقية إزاء موضوع المثلية، فهذا الموضوع صار بمثابة أداة ترهيب للعالم العربي والإسلامي، حيث يحاول الغربيون فرضه بشكل قسري على مختلف دول العالم، كما لو كان معيارا للتقدم والتخلف. فيما الحقيقة أنه موضوع يدين الغرب بأكثر مما يحرج الشرق.
تصرفت قطر بذكاء كبير إزاء موضوع حرية المثليين، فهي ليست ضدهم كأقلية لها وضعها الخاص، بصرف النظر عن تقييمنا الأخلاقي لهم، لكنها ضد استغلال مناسبة عالمية في أرض عربية وإسلامية وترويج موضوع يعتبر انتهاكًا للطبيعة البشرية السوية. واستخفافًا بقيمة مركزية في الثقافة العربية غير قابلة للمساومة.
الخلاصة: طريقة قطر في إدارة مونديال كأس العالم، يمكن اعتبارها منهجية استثنائية تشتغل في دوائر حرجة، لكنها تنجح في الموازنة والظهور بموقف باعث للإعجاب. فلا هي خضعت كليا لكل املاءات الغرب ولا هي تصادمت معهم بشكل يكشف عجزها عن التفاعل مع العالم. لكنها تصرفت بمرونة في المكان الذي يحتمل التنازلات الغير مؤثرة وتصلبت في المناطق الحاسمة. افتتحت كأس العالم بآية من القرآن لكنها عرضت مقاطع لرقصات فنية في الفقرات التالية. تركت الآذان يصدح في مدن قطر، ومنحت الجماهير الغربية الحق بالتجوال وتناول ما يريدون من مشروبات مع التزامهم بضوابط معينة. هذه الطريقة في التوفيق بين قيمها الخاصة وبين قناعات الأخرين، هو مؤشرات لطبيعة اشتغال العقل القطري وقدرته على ادارة التفاعلات مع العالم ببوصلة دقيقة، حرجة لكنها ذكية وقادرة على أن تخرج ظافرة نهاية المطاف.
*المقال في صحيفة Arabi21 - عربي21