منذُ أولّ ظهور لها، ولِدت هذه الفنّانة بطلة مكتملة، جاءت كما يأتي الأبطال، كنجمة في أعالي صبر، تجلّت وبداخلها شرارة الفن. قبل أكثر من ثلاثين عامًا ظهرت لأولّ مرّة على الشاشة. بوجهها المريح، وفي ملامحها تلك الموثوقية الموحية على وجوه الموهوبين.
كان اليمني رجلًا أو امرأة، يرتبك من محادثة جاره، ويشعر بالرهبة لو شاهد إنسانًا غريبًا في الطريق. وكانت نجيبة عبدالله تؤدي دور " قرطلة" في مسلسل دحباش. وتجعل الجميع ذاهلين أمام الشاشات. يتجمع أهل القرية في البيت التي يملك أهلها تلفازا ويتجمع أبناء المدن في الشوارع، تكتظ البقالات بالباعة والمتجولين. كي يشاهدوا دحباش، في الواقع كي يشاهدوا " قرطلة"، البطلة نجيبة عبدالله في ظهورها الآسر منذ أول لحظة.
ثلاثون عامًا، وما تزال نجيبة عبدالله، قادرة على العطاء، أغلب الظن أنها لم تنخرط في الدراما بشكل متصل طوال هذه المدة. لكنها في كل ظهور لها، تعيد التأكيد أن البطل الحقيقي لا يموت. إنها ليست "بطلة موسم واحد" بل نجمة عابرة للزمان، في شخصيتها لمسة خالدة، معززة بالموهبة.
حين تشاهدها، تستشعر حالة الفيض التلقائي لدى المواهب العالية، ذلك التدفق الأصيل في الحضور، تؤدي دورها كأنها تتحدث مع نفسها، مع أكثر الناس ألفة. تقول في أحد لقاءاتها: إنها ترى الكاميرا كما لو كانت طفلة لها، جزء من تكوينها. في علوم الإتصال، يقول فلاسفة هذا المجال: إن الكاميرا امتداد لعيون الإنسان. عبارة نجيبة مشابهة لما تقوله علوم المرئيات. لا أظنها قرأت كلامهم. لكنها تنطق من بين اللحم والدم بما تعنيه الكاميرا لها.
إن كان هناك من أم روحية للفنانات اليمنيات في اللحظة الراهنة، فهي نجيبة عبدالله. تكاد تكون الوارثة الأولى لنجيبة الحيدري. مع أن الفن والفنان حالة خاصة لا يصح ربطه ولا مقارنته. نجيبة عبدالله، حالة مائزة في عالم التمثيل. ويمكن الجزم أن نموذجها، خلق حالة تنويرية في مجتمع ما يزال غارق في الحيطة ويعامل المرأة وصوتها كموضوع للحجب. لكن نجيبة حالة تثبت حتمية التطور. أتت كضرورة طبيعية لتحرير المجتمع من كوابحة، شراراة بزغت من ذرى صبر وما تزال تطوف عوالم الفن حتى اللحظة ولا أظنها تفقد بريقها ولو تجاوزت عمرا مديدا.
قبل عامين، قلت لربما يكون مسلسل ليال الجملية، هو أخر مسلسل لها. لكنها عادت في دكان جميلة. وأثبتت حضورها المشع. هذه المرأة لن تذبل قط. يقال إن الفن الأصيل، كل من يمارس أي نوع من الفن، شعرا، ونثرا، وغناء ولحنًا، فلسفة ورواية، كل من ينتج المعنى ويملك اتصالا حقيقيًا به. ينعكس ذلك في ملامحه، يمنحه قوة باطنية تبطئ من أثر الزمن الخارجي عليه، تفيض أعماقه نحو الخارج. فيظل محتفظًا باشعاعه الخاص زمنًا أطول. نجيبة تجسيد لهذه الفكرة النبوية.
دكان جميلة، مسلسل أبطل كل توقعات الجمهور المحبط، جاء عكس تخيلاتهم المسبقة والهزلية. نحن أمام إنتاج يمثل إضافة نوعية للدراما اليمنية. من بين مزاياه، عبقرية الحالة البصرية، المستوى البصري فائق الجودة، لكأنك أمام فيلم محترف، أداء أبطاله ملفت ويعكس تمكنًا عاليًا في الأداء. وقناة المهرية بشكل عام، مثلت إضافة نوعية جديرة بالإعجاب. بظرف قصير، صعدت كمنافس مركزي، وتجاوزت الجميع. تفوقها لا يعود للموسم الرمضاني، بل تفوق جذري كمؤسسة شكلت حالة جديدة، بملامحها المبتكرة والسياسة الإعلامية الخاصة والمتوازنة.
أخيرًا: المجد لسيدة الدراما اليمنية، للبطلة التنويرية، ولكل من يعمل ليل نهار، كي يرمم صورة اليمن المتهدم، ويضفي قيمة ومعنى لحياة الناس. فائق الإمتنان لقناة المهرية وإدارتها، ولهذا النموذج الصاعد وهو يثبت للجمهور أن الفضاء الإعلامي لم يكتمل بعد وليس حكرا على أحد، بل هو أفق مفتوح لكل صاحب رؤية وعقل خلاق كي يقدم مساهمته في الحياة العامة. وقد وعدت قناة المهرية بذلك وفعلت ما يثبت تطابق وعدها بما أنجزت.
المصدر: المهرية