لا يمكن لأي دولة أو جهة أن تعترف -صِرَاحًا- في الحروب باستباحة قتل المدنيين أو غير المقاتلين بمن فيهم الأطفال والنساء، وذلك لأسباب مختلفة أولها قانوني؛ خوفًا من المساءلة، خصوصًا في الدول الديمقراطية التي للقانون فيها سُلطة. ولذلك يحتاج السياسيون والعسكريون إلى تقديم مسوّغات أخلاقية وقانونية لما يجري على الأرض، وخاصة في التصريحات الرسمية، وفي الإجابة عن أسئلة الصحفيين المُحرجة التي تواجههم بالوقائع والمبادئ الأخلاقية المتفق عليها.
وفي سياق الحرب الإسرائيلية على غزة التي خلّفت -ولا تزال- آلاف الشهداء من المدنيين، وخاصة من الأطفال والنساء، استعمل المسؤولون الأميركيون وغيرهم -بكثرة- مسوّغات أخلاقية لشرعنة موقفهم من وقوع هذا العدد الضخم من الضحايا المدنيين.
تعمدُ الإضرار بالمدنيين في الحرب هو جريمة قانونية وأخلاقية، وانتفاؤه يعفي السياسيين والعسكريين من المساءلة القانونية بتهمة ارتكاب جرائم حرب
ومن أبرز تلك المسوّغات- تعبيرًا- الأضرار الجانبية (Collateral damage)، والدروع البشرية (Human shields)؛ أي ادعاء أن حماس تتستّر بالمدنيين وتتخذهم دروعًا بشرية، ولعلي أخصص مقالًا لاحقًا لفكرة "الدروع البشرية"، ولكنني أودّ أن أقف هنا مليًّا عند مقولة: "الأضرار الجانبية".
أطلق تعبير "الأضرار الجانبية" -في السياق العسكري- على النيران الصديقة أو القتل غير المتعمّد للمدنيين، (أوغير المقاتلين)، وتدمير ممتلكاتهم ومرافقهم، وقد ابتُكر هذا التعبير بعد تطوير الأسلحة الموجّهة بدقة في السبعينيات من القرن الماضي.
وبما أن تعمد إصابة المدنيين في الحرب أمرٌ محظور في الحروب؛ يلجأ السياسيون والعسكريون -عادة- إلى استخدام تعبيرات مختلفة لنفي فكرة التعمّد؛ كالقول: إن الحروب تنطوي -بالضرورة- على ضحايا؛ لأن هذا جزء من طبيعتها، ولكن هؤلاء الضحايا هم مجرد "أضرار جانبية" في الحرب، أو كادّعاء القوات العسكرية أنها تبذل جهودًا كبيرة "لتقليل" الأضرار الجانبية.
وقد استخدم المسؤولون الأميركيون هذه الأساليب مؤخرًا في الحرب على غزة، ومنها حث إسرائيل على "تقليل الخسائر بين المدنيين". وقد استُخدم تعبير "الأضرار الجانبية" مرات عديدة في الحروب، من بينها حرب فيتنام بداية، وحرب الخليج عام 1991، حيث استخدمته قوات التحالف، وحرب كوسوفا حيث استخدمته قوات الناتو، والآن في الحرب على غزة لتسويغ المذابح التي تقع في غزة منذ شهرَين، ولا تزال حتى وقت كتابة هذه السطور.
وتعبير "الأضرار الجانبية" هو – في الواقع – تعبير "تقني" صِيغ – في رأيي – لتحقيق ثلاثة أهداف:
فتعمدُ الإضرار بالمدنيين في الحرب هو جريمة قانونية وأخلاقية، وانتفاؤه يعفي السياسيين والعسكريين من المساءلة القانونية بتهمة ارتكاب جرائم حرب؛ لأن الحرب نفسَها فعل غير مجرّم، وتنطوي -بطبيعتها- على الإضرار ووقوع الضحايا، ومن ثم يصبح التعاطي مع مجرياتها وآثارها مسألة "تقنية" الطابع، محورها – فقط – هو نفي العمدية والتخفيف قدر الإمكان مما سمي "الآثار الجانبية" التي تشمل النفوس والممتلكات.
وفي هذا السياق، نفهم التصريحات المتكررة الصادرة عن المسؤولين الأميركيين، تارةً بالثناء على الجيش الإسرائيلي بأنه من أكثر الجيوش احترافية في العالم، وتارة بإطلاق القول -بثقة مفرطة-: إن حماس تقصد إلى قتل المدنيين عمدا، بينما إسرائيل لا تقصد إلى ذلك وإنما يقتلون عرضا، وإن المسؤول عن قتلهم هو حماس أيضا؛ ما يعني ادعاء التفوق الأخلاقي لدولة إسرائيل، ولصق تهمة الإرهاب بحماس وتحميلها مسؤولية قتل المدنيين الذين قتلوا بالأسلحة الأميركية والإسرائيلية!.
ادعاء الصفة الأخلاقية عبّر عنه -صراحة- رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حين ادعى أن الجيش الإسرائيلي هو أكثر الجيوش أخلاقية في العالم، في الوقت الذي لا يزال هذا الجيش يرتكب المجازر كل يوم في غزة، حتى وصل عدد الشهداء ما يزيد عن 17 ألف شهيد، فضلًا عن آلاف الجرحى، والدمار الشامل الذي خلّفه القصف الإسرائيلي المستمر.
وتتأكد الطبيعة التقنية لمقولة "الأضرار الجانبية" من وجهين:
ولكن استخدام تعبير "الأضرار الجانبية" في سياق الحرب على غزة مضلّل في الواقع؛ لاعتبارات متعددة:
فليس في غزة أطراف متحاربة؛ بل حرب من طرف واحد، ومن قبل دولة على شعب؛ بحجة القضاء على حماس، كما أن جميع المنشآت في غزة هي منشآت مدنية، وهذا ما جعل هذه الحرب -بالنسبة للسياسيين والعسكريين- مسألة شديدة التعقيد؛ لأنه لا ينطبق عليها المعايير التقليدية التي تألفها الدول في الحروب، وهذا الأمر نفسه هو سبب اضطراب السياسيين والعسكريين في مواجهة آثار الحرب، والكلفة البشرية الهائلة لها التي لا يفتؤون يناورون في تسويغها والتهرب من تحمل تبعاتها الأخلاقية والقانونية.
فهذه ثلاثة مبادئ مهمة تحكم الاستخدام القانوني للقوة في النزاع المسلح، (ولا بد من التذكير هنا بأن ما يجري في غزة ليس نزاعا مسلحا). ومن ثم فإحداث أضرار جانبية مفرطة أو جسيمة؛ مقارنة بالهدف العسكري المتوقع والمباشر يقود -لا محالة- إلى جرائم حرب؛ خصوصًا إذا كانت تلك الأضرار واسعة النطاق وطويلة الأمد، في الأرواح، والممتلكات، والمرافق، وهذا يعيدنا – مجددًا – إلى أننا – في غزة – أمام قوة احتلال، وليس أمام حرب تخضع لتشريعات القانون الدولي.
الرابع: أن نفي العمدية مسألة مركزية في تعبير "الأضرار الجانبية" من الناحيتين: القانونية والأخلاقية، ولكن العمدية متحققة في الواقع في الحرب الجارية على غزة؛ نظرًا لطبيعة الأسلحة المستخدمة والتي يعرف مصنعوها ومزودوها ومستخدموها تأثيرَها بدقة من حيث مداها وإمكاناتها التدميرية، ونظرًا لطبيعة الأرض التي تُخاض فيها الحرب؛ فغزة ذات الكثافة السكانية العُليا في العالم، فضلًا عن استهداف المنشآت السكنية والصحية التي يُعرف – قطعًا – أنها ستوقع ضحايا من دون إنجاز أهداف عسكرية تتناسب مع تلك الأضرار.
تجعل هذه الاعتبارات الثلاثة من العمل العسكري الإسرائيلي في غزة عملا قصديا من النواحي الفقهية والأخلاقية والقانونية. فالعمدية وعدم العمدية مسألة متعلقة بالنوايا في الأصل، وبما أن النوايا مسألة مستترة وغير قابلة للقياس، جرى قياسها بناء على المعطيات المتعلقة: (1) بطبيعة الأسلحة، (2) وطبيعة الأرض والأهداف، (3) والنتائج الفعلية، وهذه الثلاثة كافية لجعل العمل العسكري الإسرائيلي في غزة نازلًا منزلة العمد على أقل تقدير. فيما لو افترضنا – بحسن نية – أن الجيش الإسرائيلي لا يتعمد فعلا قتل المدنيين.
ومن المفيد هنا، أن الفقهاء المسلمين نزلوا الآلة المستخدمة في القتل منزلة النية من القاتل، فالآلة التي تقتل غالبًا تقوم مقام النية لدى القاتل، فتجعل فعله قتلَ عمدٍ، والآلة التي لا تقتل غالبًا، تقوم كذلك مقام النية، فتجعل من الفعل قتلًا غير عمد؛ حتى لو أفضى الفعل إلى القتل حقيقة. أي لما تَعذر ضبط النية في التمييز بين العمد وغير العمد في القتل الصادر عن الأفراد أقاموا الآلة المستخدمة في الاعتداء مقام نيّة الفاعل.
وهذا القانون جار بدقة في الحرب الجارية على غزة للاعتبارات الثلاثة السابقة: الأسلحة، والأرض والأهداف، والآثار الفعلية، وهي قتل نحو عشرين ألف شهيد، أغلبهم من الأطفال والنساء.
يوضح هذا النقاش حول التماس السياسيين والعسكريين مسوّغات أخلاقية وقانونية لجرائم الحرب، أنَّ جوهر المشكلة لا يكمن في سوء الفهم أو نقص في المعرفة؛ بل هي تقنيات لفظية للتعبير -بأناقة دبلوماسية- عن السياسة الفعلية التي لا تجرؤ على التعبير عن نفسِها بعبارات صادقة ومباشرة، وتخشى في الوقت نفسه من المساءلة القانونية المحتملة.
وفي هذا السياق يبدو، مفهوما، زعم بعض المسؤولين الأميركيين عدم وجود "دليل" على "تعمد" إسرائيل قتل المدنيين؛ فلا مجال هنا للخوض في نوع الأدلة التي يبحثون عنها، وسبل إثباتها ومقارنة تحريهم الأدلةَ هنا مع إهمالهم الأدلة في أحكام عديدة كادعاء قطع حماس للرؤوس في حدث 7 أكتوبر، والعنف الجنسي تجاه الأسرى، والتشكيك في أرقام الضحايا المدنيين، وغيرها.
فالإنكار والتشكيك وادعاء غياب الأدلة أو عدم الوقوف على تفاصيل الواقعة، كلها تقنيات دبلوماسية للتهرب من الإجابة، كما أن "الأضرار الجانبية"، تعبير تقني للتبرؤ من المسؤولية عن القتل