لا أتعسَ من حال الحالم المنظّر المناضل سنين طويلة من أجل الديمقراطية إلا حال من تضعه الأقدار أخيرًا في موقع تحقيق الحلم فيرى الواقع يكذّب كل ما آمن به. كم خُيِّل لي أن الأقدار كانت تسخر مني إبان رئاستي 2011-2014 وأنا أرى حرية الرأي التي ناضلنا من أجلها، نحن الديمقراطيين السلميين، عقودًا يستغلها إعلام العار ليحقّر الثوريين، ويغرس في أذهان الشعب، أنَّ الثورة وليس الثورة المضادّة سبب كل مصائبه!
كم خُيِّل لي أن الأقدار تسخر مني، وأنا أرى حرية التنظيم التي دفعنا من أجلها ثمنًا باهظًا يستغلُّها رجال أعمال فاسدون لخلق شركات سياسية سموها أحزابًا حصلت في الانتخابات التشريعية سنة 2014 على مقاعد أكثر مما حصلت عليه الأحزاب التي ناضلت طويلًا من أجل الحريّة!
كم سخرت منّا الأقدار جميعًا، ونحن نرى الانتخابات الحرة والنزيهة تحمل لسدة الحكم سنة 2014 قائد الثورة المضادة ووزير داخلية سابقًا لبورقيبة بقي همه الأوحد طيلة رئاسته توريث ابنه، ونفس الانتخابات الحرة توصل للحكم سنة 2019 المنقلب الذي أغلق مجلس النواب بالدبابات، وألقى دستور الثورة في سلة المهملات، واستولى على كل السلطات، ولاحق وسجن كل المناضلين الذين فتحوا له ولأمثاله الباب الذي أغلقه!
ألم يحصل كل هذا بسبب الجهل بأبجديات الصراع ضد استبداد لم يهزمنا إلا بالأسلحة التي دفعنا لحيازتها ثمنًا باهظًا والتي وفّرناها له مجّانًا.
لكن إلى أي مدى كنت على حق في مثل هذا الحكم الصارم على أنفسنا؟
صيف 2022 طلبت مني جامعة هارفارد تدريس موضوع الربيع العربي، وكانت فرصة لألتقي – كما هي التقاليد الجامعية الراسخة هناك – حول فَطور صباح أو غداء مع هذا الأستاذ أو ذاك. كانت هذه اللقاءات – التي يطلبها باحث في العلوم السياسية أو أطلبها – فرصًا ثمينة تختزل على المرء قراءة عشرات الكتب، والشخص الذي تجلس معه ساعة يلخص لك إبانها أهم ما توصل إليه بعد حياة من البحث.
هكذا تعلّمت أنني ربما أسرفت على نفسي وعلى "النهضة"
ما خرجت به من معطيات ومن تحاليل مع كل من ناقشت أن ما حدث في تونس مجرد حالة كاريكاتيرية لوضع مزمن تعاني منه الديمقراطية في العالم أجمع، قد يؤدي إلى أفولها طال الزمان أو قصر حتى في أقدم معاقلها.. أي أن آليات الديمقراطيّة وأساسًا الانتخابات أصبحت أخطر الأدوات لتدمير الديمقراطيّة.
لكل من سيتهمني أنني أشكّك في هذا الركن المقدس للديمقراطية من باب الفشل الذي منيت به في الانتخابات الرئاسية أحيله لكتابي "عن أي ديمقراطيّة تتحدثون؟" الصادر.. سنة 2004.
لمن سيقول لماذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة عندما كنت في الحكم، أردّ بأن إصلاح باخرة معطوبة يكون في الميناء وقت السلم لا وسط المحيط إبان العاصفة وهي بين أمواج الثورة وأمواج الثورة المضادة والربان محاصر بأصدقاء يعتبرونه منافسًا، وبأعداء يعتبرونه خطرًا داهمًا، والاتفاق بين الاثنين رميه خارج السفينة لعلّ المحيط يريحهم جميعًا منه.
يبقى بالعودة لما كتبت سنة 2004 عن خطر الانتخابات المباشرة على الديمقراطية، أنني كنت متعلقًا بوهم إمكانية حلول تقنية لتدارك نواقصها، مثل: مراقبة تمويل الأحزاب والإعلام، أو رفع العتبة الانتخابية في انتخاب مجلس النواب للحد من الفسيفسائية الحزبية التي جعلت من البرلمان التونسي ساحة معارك مضحكة تنفس التونسيون الصعداء لنهايتها بالانقلاب المشؤوم.
لكن قناعتي اليوم أن الخرق اتّسع على الراتق.
من يتصوّر إمكانية السيطرة على المال الفاسد والإعلام التضليلي وتقنيات الإشهار (الدعاية) المبنية أكثر فأكثر على الذكاء الاصطناعي يغالط نفسه. أكثر من أي وقت مضى من تاريخ المشروع الديمقراطي، من سيحدد مآل الانتخابات ليست "إرادة الشعب"، وإنما إرادة المال والإعلام والإشهار، والأمر بصدد الاستفحال؛ نتيجة تفاقم فاعلية أدوات التضليل والتلاعب هذه. لذلك أصبحنا نرى في سدة الحكم شعبويين ومجانين ومهرجين ومجرمي أميركا والأرجنتين والفلبين والهند، وتونس، وانتظروا ما ستتمخض عنه الانتخابات في أوروبا في العشر سنوات المقبلة.
صحيح أن كل المعارك لا تُخسَر بالضرورة، والدليل انتصار لولا في البرازيل على شعبوي تافه، لكن يجب ألا نغتر، فالشاذة لا تلغي القاعدة وإنما تؤكدها.
الأخطر من الظاهرة ما وراء الظاهرة. ماذا لو كان سقوط الانتخابات في قبضة المال والإعلام (وغدًا الذكاء الاصطناعي) ليست قضية تقنية يمكن معالجتها بحزمة من القوانين القمعية أو التعديلية، وإنما قضية رؤى فكرية تقادمت وخيارات أظهرت التجربة حدودها؟
حلّل ما وراء هذه الانتخابات، تجد أنها تحيل إلى ثلاثة مقدسات علمانية لم يعد مسموحًا لأحد التشكيك فيها، كما هو الحال مع المقدسات الدينية: الفرد والشعب وإرادة هذا الشعب الذي يفترض أن الانتخابات تنطق بها.
المشكلة أن الفرد الذي تقدسه الديانة الفردانية أي الشخص الحرّ القادر على حسن التصرف وحسن الاختيار في الانتخابات أو في اقتناء أحسن وأرخص بضاعة في السوق والذي يجب أن تخدمه السياسة والاقتصاد، هو كائن خيالي لا وجود له إلا في أذهان من خلقوه.
ليس من اختصاصي تتبع جذور العقيدة تاريخيًا وثقافيًا واجتماعيًا، لكن لي فرضية هي أن من وضعوها من فلاسفة وشعراء ومنظّرين كانوا يعانون من عقد نقص مستحكمة لعدم الاعتراف بقيمتهم من مجتمع طبقي؛ فجنحوا للتطرف جاعلين من الفرد – أي في الواقع من ذاتهم كرمز ونموذج كل فرد- مقياس المقاييس وانخرطت الكثير من الذوات المجروحة في هذا التيار لنفس الدوافع النفسية.
يطرح هنا السؤال: من هو إذن الفاعل الحقيقي في المجال الاقتصادي والسياسي؟
موضوعيًا نحن أمام طيف واسع من الوضعيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية تتجسد في مواقف وتصرفات لأفراد متباينين. للتصنيف – وكم نحبّ التصنيف – هؤلاء الأفراد ملائكة أفسدتهم الحضارة، حسب Rousseau أو ذئاب أفسدوا الحضارة حسب Hobbes. قسمهم عالم الاجتماع الإيطالي Carlo Cipolla إلى الأخيار الذين تنتج أفعالهم الخير لهم ولغيرهم، والأشرار الذين تنتج أفعالهم الخير لهم والأذى لغيرهم، والأغبياء الذين تنتج أفعالهم الخير لغيرهم والأذى لأنفسهم، والحمقى الذين تنتج أفعالهم الأذى لأنفسهم ولغيرهم.
قسمتهم شخصيًا إلى المفترس مرتكب كل المظالم، والفريسة ضحية هذه المظالم، والفارس الذي يهبّ لنصرة المظلوم.
أيًا كان التصنيف، الموجودُ دومًا أفراد يتجاور فيهم الجهل والعلم، الخير والشرّ، الذكاء والغباء، القدرة على حسن اختيار ما يصلحهم والآخرين، مثل القدرة على ارتكاب كل الأخطاء والخطايا عمدًا، أو عن غير قصد.
إنها نفس الإشكالية لكن على أوسع نطاق عندما نقفز إلى مستوى الشعب.
نحن هنا أيضًا أمام مفهوم لا شك أنه نبع في عقول وقلوب مفكّرين انتموا إما إلى أقلية طبقية، أو إثنية تصارع ضد التهميش، أو التحقير، أو الاحتلال الخارجي.
من هذه المنطلقات النفسيّة التي ستبقى غامضة، نشأ المفهوم المثالي لكتلة بشرية متجانسة متّحدة: الحق والخير، والأمل، وضمان مشروع حياتي مشترك. المشكلة أن هذا الشعب موجود فقط إبان اللحظة التاريخية التي تسعى فيها مجموعة بشرية لإيجاد دولة تحميها وتمثلها وتخدمها. كنموذج لذلك، الشعب الفلسطيني الذي تعركه وتشكله وتوحد كل مكوناته معاركه المسترسلة منذ سبعين سنة لبناء دولته، ذلك لأنه لا وجود لشعب بدون دولة، مثلما لا وجود لدولة بدون شعب.
ما عدا هذه الحالة العابرة أي عند تشكل الدولة المستقلة، الموجودُ في الواقع مجتمعٌ يتوارث اللامساواة جيلًا بعد جيل ومنخرط في صراع لا يتوقف تارة سلميًا وتارة دمويًا حول تقاسم السلطة والثروة والاعتبار.
هكذا ترى هذا الشعب الواحد ظاهريًا مقسّمًا إلى شعبٍ من الرعايا يعيش بصمت وخنوع تحت الاحتلال الداخلي لطبقة عسكرية أو طائفية أو أيديولوجية، استولت على جلّ السلطة والثروة والاعتبار، وشعبٍ من المواطنين في صراع لا يتوقف لإعادة توزيع أكثر عدلًا.
ويحدثونك عن الشعب كما لو كان نسيجًا مؤلفًا من خلايا لها نفس الخصائص، ونفس المصالح، ونفس التوجهات.
الأخطر من هذا الوهم أن الشعب المخيّل مؤلف من أفراد خيرين لا يريدون إلا الخير للآخرين ولأنفسهم، وأنك إذا تركت لهم حرية الخيار فإنهم سيختارون الأصلح والأكثر التزامًا بالقيم والمصلحة الجماعية.
انظر لما يحدث اليوم في أميركا. الأغلبية الساحقة التي صوتت وستصوت لترامب تعرف أنه زير نساء ومتحيّل ضرائبي وكاذب، لكنها لا تهتم بكل هذه الأوصاف؛ لأنها ترى فيه الرجل الناجح المثير للإعجاب، لا يهم وسائل نجاحه. إذا تذكرنا أن الناس يصوتون لمن يشبههم ولمن يرون أنفسهم فيه، فمعنى هذا أن هناك أغلبية من الناخبين الأميركيين الذين يشبهون ترامب، وأن آخر ما يهمهم القيم العليا التي تدعي النظرية الديمقراطية أنهم يمثّلونها.
عن هذا الوهم يتولد الوهم الأخير؛ أي أن لهذا الشعب الخيالي الكامل الأوصاف المؤلّف من أفراد خيرين واعين مسؤولين، إرادةً صالحة تعبر عنها الانتخابات.
إنه لضرب من التفكير السحري القول بأن هذه الإرادة هي قرار خمسين في المئة زائد صوت واحد من المنتخبين الذين هم جزء من القوائم الانتخابية .. التي هي جزء ممن يحق لهم قانونًا التصويت.. الذين هم أنفسهم جزء من مجموع السكان بمن فيهم من أطفال، ومرضى، وشيوخ، وأجانب.
انتبه أيضًا للتناقض الجذري بين أجزاء المنظومة الفكرية، فالفردانية النظرية تعطي لكل الأفراد نفس القيمة والحقوق، لكن الفردانية العملية تزري عبر الانتخابات بقيمة الذين فقدوا الأغلبية ولو بنسبة 49.9%. فهم سياسيًا والعدم سيّان، وإرادتهم لا تساوي قلامة ظفر.
أهم من هذا. افترض أن كل الشعب الإسرائيلي قرّر بكل حرية في انتخابات لم يلعب فيها المال الفاسد والإعلام الموجه أي دور، أنه لن يقبل أبدًا بقيام دولة فلسطينية، فهل هذه الإرادة مبتدأ الخبر ومنتهاه في قضية الحال؟ طبعًا لا، لأن هناك إرادة أقوى من إرادة الشعب الإسرائيلي ألا وهي إرادة شعب يناضل من أجل حقه في الوجود، وإرادة القانون الدولي المبني على مبادئ وقيم منها حق كل الشعوب في تقرير مصيرها.
والآن تفحّص هذه "المقدسات" الثلاثة التي تسند آليات الديمقراطية وأساسًا الانتخابات.
كلها خيارات نسبية؛ لأنها لا تعكس إلا خيارات الثقافة الغربية في مرحلة من مراحل تاريخها.
هي لا تتقاطع إجباريًا مع خيارات ثقافية أخرى منها ثقافتنا التي لا تقدّس الفرد والتي ترى في الشريعة لا في إرادة عامة الناس أساس شرعية السلطة. أضف إلى هذا أن العدل بالنسبة إليها سيّد القيم لا الحرية، كما هو الخيار الغربي. ليُسمح لي هنا بالتأكيد على أنني غير منخرط بهذا الرأي في النقاش المبتذل حول نقد المركزية الغربية وإدانة "نفاق" قيمها إلى آخر ما يهرف به القوميون والمتدينون المتطرّفون.
ما أعنيه أن البحث عن حوكمة رشيدة الذي انطلق منذ آلاف السنين في أشكال بدائية – منها الحكم المجالسي للقبيلة أو القرية – اكتسب عبر الديمقراطية الغربية شكله الأكثر تقدمًا وتعقيدًا. لكن هذا الشكل ما زال مبوّبًا لكثير من التغييرات؛ لأنه يرتطم بتحديات غير مسبوقة أظهرت ما فيه من نواقص وعيوب، لا بد من تداركها حتى يتواصل هذا البحث.
لم لا يكون لنا نحن العرب دور في دفع المشروع الديمقراطي إلى أبعد مما أوصله إليه الغرب، وقد أصبحت التجربة ملكًا للعالم أجمع، وذلك في إطار تلاقح الحضارات وضرورة الأخذ بامتنان من كل مورد والعطاء بلا منّ؟
يصبح السؤال في هذه الحالة: على أي خيارات فكرية وقيمية أخرى تكون قاطعة للثقافات يمكن أن نبني آليات جديدة تعيد للمشروع الديمقراطي حيويته المتلاشية وتدفع به قدمًا في طريق سيبقى دومًا طريق الماشي نحو الأفق؟.