تسير الاستراتيجيا التركية في العملية العسكرية ذات الأبعاد الثلاثية، وفق نظرية "كرة الثلج المتدحرجة". كرة تلتقي أجزاؤها من الداخل التركي ومن جبال قنديل الحدودية مع العراق، وطبعاً من الحدود التركية ـ السورية البالغ طولها 911 كيلومتراً لتصبح الحملة العسكرية ضخمة للغاية، بحجمها وبأهدافها، وإن ظهر ذلك على مراحل وبالتدرّج. أهداف لا يمكن الفصل في ما بينها نظراً لتعقيدات الداخل والخارج. من المفارقات السورية أنّ التدخل التركي تحت عنوان إطاحة "داعش"، يحمل في طياته هدفاً مناقضاً بالظاهر بشكل تام، وهو إطاحة النظام السوري. عبارة قد تحمل للوهلة الأولى تناقضاً ظاهراً وواضحاً، لكن تمحيصاً قليلاً يوضح أن طريق إسقاط النظام السوري يمرّ بإطاحة "داعش". هكذا يقول العارفون بطريقة تفكير القيادة التركية الحالية التي أعلنتها حرباً شاملة لإسقاط النظام بشكل غير مباشر، أي عبر إسقاط أبرز مبررات بقاء هذا النظام، "داعش"، بغطاء دولي ــ إقليمي يبدو واضحاً أنه مختلف هذه المرة عن كل ما تم تداوله في الفترات السابقة، إذ تظهر واضحة ملامح التسويات الأميركية ــ التركية ــ الخليجية في الاستفاقة التركية الأخيرة.
اقرأ أيضاً: جاووش أوغلو:المناطق الآمنة بسورية ستتشكل بعد إزالة خطر "داعش"
"
الحليف الميداني على الأرض لا يجدي نفعاً بلا المناطق الآمنة
"
لقد تأخرت تركيا، لا بل تأخرت جداً قبل أن تكتشف أن شعار "أهلاً بكل من يحارب النظام السوري"، لا يمكن أن يكون شعاراً مستداماً ولا مضمون الجانب مع تنظيمات مثل "داعش" تنظر إلى الحكم التركي أو "النموذج" التركي، على أنه "حالة باغية" و"سلطة طاغوت وكافرة"، وهو ما تعبّر عنه أدبيات التنظيم الشفهية والمكتوبة في مجلته "دابق". بالتالي، كان منطقياً جداً أن يدرك العقل التركي بأن تركيا ستكون هدفاً للتنظيم عاجلاً أم آجلاً. كما كان على العقل التركي الرسمي أن يفهم أن غضّ النظر عن تسرّب مقاتلي "داعش" عبر الأراضي التركية إلى سورية، يُمعن في إضعاف الفصائل المقاتلة للنظام. من هنا، يبدو عنوان القضاء على داعش في سورية، برياً وبغطاء جوي ومدفعي تركيَّين، وليس جوياً فحسب على طريقة غارات التحالف الدولي الفاشلة، رصاصة مباشرة في صدر النظام السوري، تُضعف أو تزيل من أمام القوات المعارضة المسلحة، أبرز الأعداء عسكرياً (أي داعش مجدداً)، وأبرز المبرّرات التي لا تزال توفر لنظام بشار الأسد بعض الغطاء الداخلي والخارجي للبقاء.
منذ اليوم الأول لعسكرة الثورة السورية، ظهر أنه يصعب سقوط النظام السوري من دون تدخل تركيا؛ فهي الدولة الحدودية الأكثر وضوحاً في إعرابها عن رغبتها بتغيير النظام، وهي الدولة الحدودية الأكبر والأقوى والوحيدة القادرة بجيش المليون جندي، على تمهيد الطريق لإسقاطه بتدخل عسكري وما يليه من تحقيق مجموعة شروط ممهِّدة للسقوط، تبدأ بإقامة مناطق آمنة وحظر جوي يتمدّد مع المنطقة الآمنة أو يتدحرج إلى العمق السوري ليصبح الاشتباك مع قوات النظام وحلفائه حتمياً. ربما هذه هي الترجمة العسكرية للكلام السياسي الذي قاله أحمد داود أوغلو قبل يومين عندما حدد "بناء الديمقراطية في الجوار (اقرأ: السوري)"، كأحد أهداف العملية العسكرية "الشاملة" في سورية.