"إن السلام كالحرب.. معركة لها جيوش وحشود وخطط".. الفيلسوف والأديب الأمريكي "رالف والدو إمرسون".
هكذا نفذت المملكة برعاية خادم الحرمين الشريفين، وجهود سمو ولي العهد والدبلوماسية السعودية خطة معركة السلام في القرن الإفريقي، وهي المعركة التي لا خاسر فيها، ويفوز فيها كل الأطراف، متوجة جهودها في إفريقيا باتفاقية جدة للسلام.
حالة حرب أقضت مضاجع البلدين الجارين إثيوبيا وإريتريا وامتدت لنحو 20 عاماً، وأسفرت عن الكثير من الخسائر البشرية والمادية الهائلة، وأدت إلى نشاط ملحوظ للتنظيمات الإرهابية والحركات المتطرفة التي تقتات على الحروب وعدم الاستقرار، وتستخدمه لفرض أفكارها ونفوذها. ولكن كل ذلك انتهى الآن باتفاق جدة التاريخي وبرعاية القيادة السعودية؛ ليعود الوئام والتقارب بين جسدين كانا في يومٍ من الأيام جسداً واحداً ودولة واحدة.
صراع الـ 20 عاماً
لم يكن الصراع الإثيوبي الإريتري وليد اللحظة، بل كان صراعاً قديماً وشرساً بدأت فصوله الأولى باستقلال إريتريا عن إثيوبياً في عام 1993م؛ جراء استفتاء شعبي انحاز فيه الناخب الإريتري إلى الانفصال، وهو ما أفقد أديس أبابا منفذها الوحيد على البحر الأحمر، لتنضم لقائمة الدول الحبيسة.
لكن الصراع اشتد واستعر حينما أقدمت الدولة الناشئة آنذاك إريتريا على طلب ترسيم الحدود وضم إقليم "بادمي"، لكن أسمرة قرعت طبول الحرب باجتياحها لتلك المنطقة المتنازع عليها والتي تتسيدها إثيوبيا؛ ومنذ تلك اللحظة بدأ صراع مسلح استمر لعامين سقط فيه أكثر من 100 ألف نفس ما بين قتيلٍ وجريح من الطرفين، وأنفقت على تلك الحرب ما يزيد عن 6 ملايين دولار.
وفي 18 يونيو 2000، صدق الطرفان على اتفاقية سلام شامل وتحكيم ملزم للنزاع، ووقعت الحكومتان على اتفاقية الجزائر للسلام، والتي أقرت بأحقية "أسمرة" في إقليم "بادمي" المتنازع عليه. ولكن ظلت الحرب الباردة بين الطرفين طوال 18 عاماً، وظلت الإرادة السياسية في البلدين منيعة على التنفيذ الشامل للاتفاقية إلى أن تغيرت المعادلة بوصول "آبي أحمد" إلى رئاسة وزراء إثيوبيا.
إرهاصات السلام
ومنذ الوهلة الأولى لوصول "آبي أحمد" إلى سدة الحكم في إثيوبيا عمل على التقارب مع الجار الإريتري، واستئناف العلاقات، وإنهاء الصراع طويل الأمد بين فرقاء القرن الإفريقي، عملاً بالمقولة الخالدة "الانتصارات الحقيقية والدائمة هي انتصارات السلام وليس انتصارات الحرب"، وفاجأ الرجل الجميع بإعلانه التزامه بتنفيذ اتفاقية الجزائر للسلام، وإعادة الإقليم المتنازع عليه إلى إريتريا.
وفي خطوة كانت من شأنها وضع حد للصراع، جدد رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد" استعداده لقبول نقل تبعية "بادمي" لحل أزمة الحدود، قائلاً: "تجري مبادلة أراض بين البلدين، لكن ذلك لن يهم، لن توجد حدود بيننا لأن العلاقة بيننا ستقوى"، في خطوة رحبت بها إريتريا.
وشهد يوليو الماضي، إذابة الجليد بين الطرفين رسمياً بزيارة رأس النظام الإثيوبي "آبي أحمد" لأسمرة عاصمة إريتريا، في أول زيارة رسمية لمسؤول إثيوبي منذ سنوات، وكان في استقباله رئيس إريتريا "إسياس أفورقي"، قبل أن يتوجها لإجراء محادثات سلام في القصر الرئاسي، تتناول العلاقات الثنائية وسبل حل الخلافات، إذ خرج آلاف المواطنين للترحيب برئيس الوزراء الإثيوبي، وزينت أعلام إثيوبيا شوارع العاصمة الإريترية.
وقبل أيام، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي سحب قوات بلاده من الحدود مع إريتريا، وهو ما نفذته أسمرة أيضاً بالمثل، ضمن إجراءات أنهت الخلاف المحتدم بين البلدين، إضافة إلى إعلان فتح السفارة الإثيوبية في أسمرة. وفتحت الدولتان حدودهما البرية للتجارة للمرة الأولى منذ 20 عاماً.
الدور السعودي
وكان للمملكة دور فاعل في إنهاء عقدين من الحرب والصراع بين البلدين الجارين، اختصره المحلل السياسي "محمد الحسن العماري" في عبارتي "القوة الناعمة" و"العمل المستدام"، مشيراً إلى أن أثر المشاريع السياسية "إقليمياً ودولياً" تبرز نتائجها من خلال عامل زمني طويل يطلق عليه "عمر الشعوب"، مبيناً أن العمل على القوة الناعمة يكون بشكل عميق وهادئ، مع استجابة طفيفة لمتطلبات المرحلة، لأن الهدف إستراتيجي، ولا يتم استنزافه من خلال التكتيكات الطارئة.
ويفسر "العماري" سبب استخدام المملكة "القوة الناعمة" في تعاملها مع الملف الإفريقي، بقوله: "بدأت مسببات القوة الناعمة للمملكة في إفريقيا بعد أن تسللت القوى الداعمة للإرهاب إلى القارة السمراء، مستغلة قضايا الصراعات بين الدول وحتى داخل الدولة الواحدة. بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية للأنظمة، وتفاوتها بشكل غير عادل بين الكيانات والأفراد. لذا كانت متطلبات المرحلة حينها هي استيعاب هذا التغيير السلبي، وإعداد مشاريع تنموية معززة للسلام والأخلاقيات الدولية".
ويلفت المحلل السياسي إلى أن "القوة الناعمة" السعودية كانت مستمدة من استقرار النظام السياسي للمملكة، وتمتعها بنفوذ دولي كبير، إضافة إلى عوامل أخرى داعمة إيديولوجية واقتصادية واجتماعية.. وغيرهم؛ مؤكداً على أن الهدف من وراء ذلك كان "استقرار الدول" و"تنمية ذاتها" انطلاقاً من أدوار المملكة الإنسانية، ودعمها الكبير للمشاريع الإنسانية بميزانيات ضخمة.
ورأى كذلك الكاتب الصحفي "سلمان الدوسري" أهمية اتفاق جدة، من ناحية "تعزيز أمن القرن الإفريقي والبحر الأحمر"، موضحاً أنه "سيحد من التدخلات الأجنبية السلبية، كما سيحد من التسابق الإقليمي لإيجاد موطئ قدم في منطقة متوترة"، مشيراً إلى أن التوجه السعودي نحو إفريقيا "يجني ثماره سريعاً" بهذا الاتفاق التاريخي